مجلة البعث الأسبوعية

المعارك الأدبية.. بثّت الحيوية في عالم الثقافة وتحولت اليوم إلى معارك  شخصية

البعث الأسبوعية- أمينة عباس

عرفت الساحة الثقافية العديد من المعارك الأدبية التي شارك فيها عدد كبير من الأدباء والمثقفين، واتفق الدارسون والنقاد على أن هذه المعارك بثّت الحيوية في عالم الفكر والثقافة، وساهمت مساهمة كبيرة في انعتاق الأدب والثقافة من بعض التقاليد الأدبية مما عزز حمى الصراع الفكري والأدبي الذي خبت ناره اليوم في ظل غياب هذه المعارك التي كانت إحدى سمات فترة من الفترات.

معركة تأمين الحياة الكريمة

يوضح د.محمد الحوراني رئيس اتحاد الكتّاب العرب أن المعارك الأدبية والثقافية لم تقتصر على مرحلة زمنية دون غيرها من المراحل، ذلك أنها قديمة قدم الثقافة والفكر والأدب بأجناسه المختلفة، وقد كانت هذه المعارك ضارية في بعض الفترات، إلا أن الجميل فيها أنها لم تترافق مع سفك الدم وتقطيع الأطراف وتشويه البشر، وإنما جعلت المشهد الثقافي أكثر تحصيناً وأشد رصانة، كما جعلت اللاحق يستفيد من السابق حتى في معاركه واختلاف وجهات نظره، وهذا ما حدث بين جرير والفرزدق وغيرهما من الشعراء في الجاهلية وصدر الإسلام والعصور اللاحقة، ويرى الحوراني أن أجمل هذه المعارك وأكثرها فائدة لطلبة المعرفة والباحثين عن رصانة العلم تلك التي حدثت بين كبار الأدباء والباحثين والمثقفين أمثال عباس محمود العقاد وأحمد شوقي وزكي مبارك وطه حسين وعبد القادر المازني وتوفيق الحكيم ومحمد حسنين هيكل، وغيرهم، حتى أن ثمة مصنفات وضعت حول هذه المعارك نظراً لأهميتها كما هو حال كتاب”المعارك الأدبية في مصر” لأنور الجندي وكتاب محمد مندور حول المعارك الأدبية، وغيرهما، منوهاً كذلك إلى أن هناك الكثير من المعارك والسجالات الأدبية والفكرية التي أثيرت حول ما كتبه بعض الأدباء والمثقفين مثل أدونيس ومحمود درويش ومظفر النواب والعفيف الأخضر ومحمد عابد الجابري وجورج طرابيشي، وغيرهم، وتشهد على هذه المعارك والسجالات بطون الكتب وفصولها المختلفة التي وضعت في هذا الشأن والتي شكلت إضافة حقيقية للمشهد الثقافي والفكر العربي سواء اتفقنا مع وجهة نظر أصحابها أم اختلفنا، ويؤسف د.الحوراني أن هذه المعارك والسجالات المهمة تراجعت في العقدين الأخيرين، لاسيما مع ثورة الاتصالات والمعلومات التي شهدت طغياناً للمعلومة والمعارك الرقمية والإلكترونية على حساب المعلومة الورقية، فغدا المتابع للمشهد الثقافي والفكري يشاهد كثيراً من هذه المعارك على الصفحات الزرقاء ومواقع التواصل الاجتماعي، كما أصبح المرء يلحظ ضحالة في النقد وتراجعاً للحالة الثقافية نتيجة تسيّد بعض الجهلة للمشهد ومديحهم المجاني لبعض أدعياء الثقافة من الإناث،ومع هذا يعتقد الحوراني أن هذا لا يعني انتهاء المعارك الأدبية الحقيقية، لكن وسيلتها وظروف الحروب الأخيرة أثرت سلباً على الحالة الثقافية عموماً في معظم الدول العربية،حيث باتت معركة الكاتب والمثقف والأديب مع تأمين قوت يومه ومستلزمات حياة عائلته قبل أن يخوض في معارك وسجالات أدبية كان يخوضها سابقاًوإن ظلت بعض القضايا برأي الحوراني تشعل سجالاً ونقاشاً حاداً في الصفحات والمواقع الإلكترونية وعلى الورق أحياناً مثل القصة القصيرة جداً، قصة الومضة،القصيدة الومضة، قصيدة الهايكو، والجوائز الأدبية بكل ما فيها من علاقات خاصة وبعد عن الإبداع والمضمون الأدبي للنص، وكذلك ما أثير مجدداً من موضوع متجدد حول الهوية والانتماء وأيهما المدخل للآخر، وكذلك العلاقة مع الهويات المتعددة، ودور وسائل التواصل الاجتماعي في تكوين الوعي وترسيخ الهوية الوطنية الجامعة.

 

المعارك الثقافية تتطلب مثقفاً خبيراً

ويؤكد الشاعر د.نزار بريك هنيدي أن المعارك الثقافية ظاهرة من أهم الظواهر التي تدل على حيوية وثراء المشهد الثقافي، فهي تعني وجود مثقفين جادين يعبّرون عن اتجاهات فكرية متنوعة، ويحملون رؤى متباينة للعديد من المسائل التي تهم المجتمع، كما تشير إلى أهمية التفاعل بين الأفكار المتعددة واستعراض وجهات النظر المختلفة والحوار الموضوعي القائم على مقارعة الحجّة بالحجّة، ومقابلة الدليل بالدليل، ووضع الرأي إلى جانب نقيضه أمام القارئ الذي يتطلع إلى تكوين قناعته الشخصيّة وبناء موقفه الخاص، عدا عن أن هذه المعارك برأيه سوف تفضي إلى توليد المزيد من المسائل والقضايا الجديدة وطرح العديد من الأفكار والرؤى المبتكرة، منوهاً إلى أن أية نظرة إلى تاريخ الثقافة العالمية تكفي لتبيّن لنا الدور الذي لعبته المعارك الثقافية في نشوء التيارات الفكرية والفلسفية، وفي تشكيل المدارس الأدبية والفنية والمناهج النقدية، والوصول إلى كثير من الاكتشافات والاختراعات العلمية، ويعتقد هنيدي أن أحداً لا يمكن له أن يؤرخ لثقافتنا العربية في العصر الحديث إذا لم يدرس المعارك الثقافية التي خاضها الأدباء والمفكرون الكبار مثل سلامة موسى وشبلي شميّل وطه حسين وعباس محمود العقاد ومارون عبود وجبران خليل جبران، وصولاً إلى محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي وأدونيس، وغيرهم، مشيراً إلى أن مجموعة من الأسباب الموضوعية جعلت حياتنا الثقافية اليوم تكاد تخلو من مثل هذه المعارك الثقافية الكبرى، في مقدمتها تراجع الاهتمام بالصحافة الورقية، وغياب المجلات المتخصصة التي كانت تشكل المهاد الرئيس لهذه المعارك، أما المجلات المنوعة القليلة التي مازالت تصدر في وطننا العربي فإن طبيعتها وطبيعة من تستهدفهم من القراء لا تتحمل الأبحاث الجادة ولا الحوارات الرصينة، وينطبق ذلك على الإعلام الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي التي حلّت اليوم محل الإعلام الجاد، أما السبب المهم الآخر برأي هنيدي فيتمثل في افتقاد غالبية كتّابنا اليوم للثقافة العميقة المتخصصة، فالمعارك الثقافية كما يؤكد هنيدي تتطلب مثقفاً خبيراً بالموضوع المطروح وصاحب موقف فكري وفلسفي واضح يكون متحمّساً للدفاع عن موقفه ضد ما يراه مخالفاً لقناعاته وتوجهاته، ومؤمناً بأهمية الدور الذي يقوم به، ويأسف لأن مثل هذا المثقف أصبح نادراً في محيطنا الثقافي، ويتم تهميشه لصالح سيطرة أنصاف المثقفين والكتّاب السطحيين على وسائل الإعلام،ويعتقد أن الخطوة الأولى في استعادة هذه الظاهرة المهمة لحياتنا الفكرية والثقافية تبدأ من إعادة الاعتبار للصحافة الورقية والمجلات المتخصصة وللمفكر والمبدع الحقيقي وإشاعة ثقافة الحوار وتأمين ما تتطلبه من حرية وإمكانية للتفاعل والتأثير.

معارك ثقافية تواجه مصائرها

ويشير د.راتب سكر إلى تنوع المعارك الثقافية واتجاهاتها في تاريخ الآداب العالمية والعربية، وتركز ذلك التنوع في حياتنا العربية منذ مطلع القرن العشرين حتى الثمانينيات منه في محورين رئيسيين برأيه، الأول المعارك بين أصحاب التحديث وأصحاب التقليد والإتباع، بلغت ذراها مع جماعات الديوان وأبولو المصريتين، والأدب المهجري اللبناني، مع إشارته إلى وجود محازبين لهذه الجماعات في غير بلد عربي مثل محازبة أبو القاسم الشابي التونسي (1909-1934) لجماعة أبولو، ويمثل كتاب مصطفى صادق الرافعي (1880-1937) “على السفود” الصادر عام 1930 شكلاً من أعنف أشكال المعارك الأدبية بينه وبين الاسم البارز في جماعة الديوان عباس محمود العقاد (1889-1964)أما النوع  الثاني من المعارك فهي معارك بين أصحاب الإيديولوجيات المختلفة، وكانت تحت عنوانين عريضين حملا –غالباً- عناوين مثل الالتزام والفن، والتقدمية والرجعية،حيث احتدمت المعارك الأدبية في هذا المضمار مع كتاب عمر فاخوري (1895-1946) “الباب المرصود” الصادر عام 1938 مثيراً تَساؤلاتٍ فكرية ونقدية جديدة، وكتاب شحادة الخوري (1924-2018) “الأدب في الميدان” الصادر في دمشق عام 1950 وكتاب جلال فاروق الشريف (1925-1983) وهي كتب هاجمت بلا هوادة الأدب الذي لا يعنى بقضايا الشعوب وقاعها الاجتماعي البائس، وتدعو إلى رفع الأدباء رايات الكفاح من أجل حقوق الناس البسطاء، وكان خصومهم يسخرون من هذه الدعوات التي تحرف الأدب عن جوهر رسالته الفنية الصافية، مع وصف أدبهم بأنه أدب صنعة وتقليد، مرجّحاً سكر أن كتاب نبيل سليمان وبوعلي ياسين “الأدب والإيديولوجيا في سورية ” الصادر في منتصف السبعينيات كان آخر المؤلفات المهمة التي انحازت إلى الانتصار لقضايا العدالة الاجتماعية، مع تعرضه لسجالات ساخنة بعد صدوره، وقد جمع مؤلفاه مع الأديب محمد كامل الخطيب النقاشات التي دارت في سورية حوله في كتاب بعنوان “معارك ثقافية في سورية 1975-1977” نُشر في بيروت عام 1979ويرى سكر أن نار هذه المعارك بدأت تخمد في الثمانينيات من القرن العشرين حين بدا أن أسئلة النهضة العربية ومشاريعها الكبرى تواجه مشكلة حقيقة وآفاقاً مسدودة مما جعل مثقفين وأدباء كثيرين يستبدلون بتلك المعارك حالات من التأمل الخامل في إعادة صياغة مشاريع نهضوية جديدة، بينما مضى قسم كبير منهم في نقد ما حدث وجلد الذات بنقد مشاريعها السابقة مما جعل ميدان الحوارات الأدبية والثقافية وصراعاتها ومعاركها في البلدان العربية يبرد رويداً رويداً حتى إذا وصلنا إلى مطلع عقدنا الثالث من الألفية الثالثة بدا وكأن الشعور بالانكسار ديدن كثيرين من الأدباء وسط تسرب الكثيرين منهم من عهود المشاريع الثقافية ونهضاتها الحالكة إلى تدبير الرأس الفردية وتوظيفها في مغانم عجلى مع كل ريح سانحة، وفي مثل هذا المناخ كان النفير برأي سكر يعلو إلى آخره لإزاحة الخصوم والمنافسين على المغانم، مبيناً أن هذه الرؤى السوداوية في تصور ما آلت إليه مصائر طواحين المعارك الثقافية القديمة في العصر الحديث قاسية على الروح والوجدان وتتجدد مطامح كثيرين لإعادة ترتيب الأوراق ومحاولة فتح نوافذنا الآن على حوارات ومعارك ثقافية نظيفة، مستعيدين صور الأسلاف.

 

ليست حكراً على أحد

ويعتبر د.عبدالله الشاهر المعارك الأدبية شكلاً دالاً على حيوية الحراك الثقافي وقدرة الثقافة على استيعاب مساحات أشد من التعدد والاختلاف،وهي بذلك جزء من النسيج العام للثقافة التي لا تعرف الثبات والجمود، لذلك كانت السجالات الأدبية والفكرية صراعاً بين القديم والجديد وبين الأصالة والمعاصرة وبين التراث والحداثة،مبيناً أن المعارك الأدبية ليست حكراً على أمة دون غيرها، فقد شهد الأدب العالمي معارك عديدة كان من أبرزها المعركة التي دارت بين مذهبين أدبيين رئيسيين في العصر الحديث هما الكلاسيكية والرومانسية، وهنا يشير الشاهر إلى الصراع الفني الذي دار بين أنصار البحتري وأنصار أبو تمام، وكذلك المعارك الشعرية بين جرير والفرزدق، موضحاً أنه في العصر الحديث كانت معارك الفصحى والعامية، وخصوصاً في المسرح في مصر بين مارون النقاش وأنصار الفصحى وبين سلامة موسى وعباس محمود العقاد وكذلك بين محمود شاكر ولويس عوض، وهنالك ثمة معارك أدبية سلطت الضوء على الجانب الفني والتقني والانتقادات التي وجهها د.طه حسين إلى د.أحمد لطفي السيد حول ترجمته لكتاب “الأخلاق” لأرسطو حيث دخل د.طه حسين في معركة أدبية مع أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأحمد نسيم لأنهم امتدحوا ترجمة أحمد لطفي السيد، مؤكداً أن المعارك الأدبية كثيرة ومتنوعة، وكان الأدب في الفترات السابقة يأخذ شكل عقيدة وانتماء للشكل أو الأسلوب أو الجنس الأدبي أو حتى لمدرسة كان ينتمي إليها الأديب فيدافع عنها، أما الآن فقد اختلف الأمر برأيه وباتت الأمور تقوم على:اكتب كما شئت وكيفما شئت وابتعد واقترب من شكل فني أو مدرسة أدبية معينة فلا أحد يخاصمك والسبب في ذلك ظهور أشكال أدبية جديدة في كل الأجناس والانتماءات الفكرية الجديدة التي ابتعدت عن الالتزام المدرسي في الأدب إلى إطلاق الفكرة وظهرت أشكال جديدة وصياغات عديدة أدت إلى اتساع دائرة الفعل الأدبي دون الحاجة إلى معارك ومناكفات أدبية.

معارك اليوم شخصية

ويرى الشاعر العراقي طلال الغوار أن المعارك الأدبية وعبر تاريخها ما هي إلا تعبير في أغلب جوانبها عن حيوية الثقافة في الفترات التي تنشط فيها هذه المعارك وتُضمر في داخلها هاجس التجدد المعرفي الثقافي والتوسع في عالم الفكر والأدب وطرح رؤى جديدة, وقد تكون أيضاً بدافع الاختلافات في الرؤى وطرق التعبير الأدبي وطبيعة الشخصية كما حدث بين المتنبي وأبو فراس الحمداني, وكذلك الموقف المتمثل بهاجس الحفاظ على الثوابت والرؤى التي تحكم الوضع الثقافي في هذه الفترة أو تلك والتصدي لاختراقها، مبيناً الغوار أنه كان لهذه المعارك انعكاس إيجابي على الحياة الأدبية والثقافية, حيث منحت للثقافة قدراً كبيراً من الحيوية على مستوى تجديد ابتكار أساليب التعبير في مستوياته الجمالية والفنية كالصراعات الذي دارت بين أنصار البحتري وأنصار أبو تمام، وكذلك المعارك بين جرير والفرزدق،وقد أنتجت هذه المعارك الأدبية قدرة مضافة للثقافة في استيعاب للتنوع والاتجاهات الأدبية وتعددها، موضحاً أن غياب هذه المعارك مرتبط بكل فترة من فترات التاريخ وأدبائها ومفكريها ولها ما يميزها عن الأخرى في مستوى حياتها الثقافية, فالجدية والصدق والمواقف،مع وجود هامش الحرية كانت الدافع في وجود الاختلافات، إضافة إلى وجود كمّ هائل من الأدباء اليوم وفي جميع المستويات إلى جانب عزوف الناس عن متابعتهم بسب كثرة وسائل التواصل والبرامج المسلية، كما أن الهيمنة السياسية برأيه على المتن الثقافي في كثير من البلدان العربية تحدّ من ذلك،حيث تقلصت مساحات التعبير، وإذا ما وجدت معارك فإن أغلبها شخصي لا يستثير الآخر، منوهاً إلى أن الأديب الحقيقي المعاصر يرى أن الكتابة الإبداعية حالة فردية وعليه الاطلاع على التجارب الأدبية الإبداعية الأخرى ليغني بها تجربته في محاولة منه أن يحقق الحالة الافتراقية عنهم وهي بهذه الحالة في غنى عن الصراعات المعلنة، وإذا كان ثمة صراعات أو معارك فإنها أقرب إلى الافتعال وتقتصر على البعض من ذوي المواهب المتواضعة والمتطفلين على الأدب بغاية الإساءة للآخر وبقصد الشهرة الفارغة.

لخّص الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ تفسيراً مختلفاً لخفوت نجم المعارك الأدبية إذ قال حول ذلك: “أعتقد أن السبب الأول هو الفجوة الكبيرة بين الأدباء والمفكرين وبين القارئ لأنه قاعدة المثلث، وإذا اختفت القاعدة لم يكن هناك مثلث، والقارئ بدوره لم يعد يتفاعل مع ما يُكتب، لذلك نجد كثيرا من الكتَّاب يصابون بالإحباط لأنهم كانوا يتوقعون لفكرة ما أو لكتاب أن يحدث صدى أكثر فلا يحدث ذلك”.