طوفان غزة.. المعركة باتت في «أرض العدو»!!
بسام هاشم
لماذا تتردد «إسرائيل» في غزو غزة براً؟ هل السبب استكمال الاستعدادات اللوجستية حقاً؟ لماذا يبدو التفكير صعباً ومعقداً حيال ما يجري في غزة؟ وهل يعني ذلك الحاجة إلى أفكار مختلفة عما سبق؟ وإذا كان ذلك صحيحاً، هل تدرك «إسرائيل» حجم الهزيمة التي لحقت بها؟ وهل يشي الانحياز الغربي الجماعي إلى جانب الاحتلال بمخاوف جدّية على مستقبل الكيان؟ وهل يعني ذلك أن استمرارية هذا الكيان ترتبط باستمرارية الهيمنة الغربية نفسها؟ ولماذا يتأتى مثل هذا الانطباع من مجرّد هجوم قامت به فصائل شبه نظامية؟ وأين هي نقطة الضعف التي جعلت مثل هذه الأسئلة ممكنة؟ وهل تملك «إسرائيل» القدرة على قلب الوضع والإتيان بمعادلة عكسية؟ وهل نحن أمام نوع من عدم التكافؤ الذي يطرح مزايا عسكرية وقتالية وثقافية فاعلة في اختلافها وتباينها؟ وهل انتصار المقاومة تدشين لمرحلة جديدة من الصراع لها معطياتها ومعادلاتها؟
الأسئلة لا تنتهي لأننا بالفعل أمام المفاجأة التي أدخلتنا في شبه حالة من التفكير المعطل.. بل اليقين الذي يرتقي اليوم لحل القضية / المشكلة التي اكتوت بها سبعة أجيال عاشت الصراع العربي الإسرائيلي، بنكبته ونكسته وانتصاراته وخيباته و«تطبيعاته»، وبالإجرام الصهيوني، في إطار مشروع ترسيخ أطول احتلال مستمر في عالم اليوم: حملة إبادة جماعية لا هوادة فيها في وضح النهار، إرهاب يومي، احتلال للأراضي، استيطان، اعتقالات عشوائية، هدم منازل، هجمات قناصة، نقاط تفتيش، تدمير محاصيل، إحراق قرى، تعديات على المسجد الأقصى، عزل وحصار يستحيل فيه الخروج من الأقفاص الإسرائيلية، صفقات تطبيع من فوق رؤوس الفلسطينيين، وتمادي في انتهاك القانون الدولي، بل وإهانة الأمم المتحدة رسمياً من خلال خريطة لـ «الشرق الأوسط الجديد»، يلوح بها نتنياهو، في قاعة اجتماعات الجمعية العامة، محا منها فلسطين – الدولة العضو – وشعبها، ودمج فيها الضفة وغزة بـ «دولة» الإحتلال.
بلى.. لقد أصيبت «إسرائيل» في نرجسيتها، وتحسس الغرب هشاشة الأوهام التي طالما تخدر بالاستناد إليها!! لقد أقنعت «إسرائيل» نفسها أن الفشل كان، وحسب، استخباراتياً وعسكرياً، ولكن المقاومين، ومعهم كل الشعب الفلسطيني، يرون أنهم إنما يعودون إلى أراضي فلسطينهم التاريخية، أرض الآباء والأجداد التي لم يعرفوها إلا في قصص الأجداد والجدات. ومن هذه النقطة بالذات. فإن كل «طرف» سيتابع الصراع حتى التوصل إلى حل / إنهاء / تسوية تاريخية.. الإسرائيليون من نقطة محاولة ترميم الوضع الناشئ بكل خرابه وشكوكه وتداعياته المرئية غير المرئية، والفلسطينيون من الحلم الذي ينطلق اليوم بإصرار في فضاء المستقبل. وطبعاً، ليس المقصود أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفي إطاره الأوسع الصراع العربي الإسرائيلي، يبدأ اليوم.. أبداً!! المقصود أننا وحسب نغادر رومانسيات النكبة وغنائيات النزوح والبرتقال الحزين، والخيمة، والبارودة الانجليزية، وأدبيات المجتمع الدولي وقرارات الأمم المتحدة ونصوص الشرعية الدولية، لنمسك بكل أوغاد القرنين التاسع عشر والعشرين الذين فرقوا وقسموا واقتطعوا ووهبوا وأعطوا وسادوا بقانون التفرقة والسلاح المتفوق والنزعة الإجرامية بكل توحشها وساديتها، وغلفوا كل ذلك بالقانون الدولي الذي عادوا وفسروه واجتهدوا فيه بما يخدم مصالحهم، بحيث تحوّل إلى سيف مسلط فوق عنق الضحايا.
المعركة باتت في «أرض العدو».. تكفي هذه الحقيقة للتأكيد على أن ميزان القوى يتعدّل تاريخياً.. ونهائياً، وأن الصراع تحكمه ابتداء من الآن معادلات وقوانين مختلفة!! لا القتل ولا الانحياز الأعمى ولا المعايير المزدوجة في كامل سفورها تستطيع أن تغير شيئاً، فالغرب الذي كشف عن كامل انحطاطه في مشهد مخزٍ، ظهر في كامل رعبه.. لقد تجاوز بايدن وسوناك وشولتز وماكرون كل الاعتبارات الدبلوماسية والإنسانية والأخلاقية لإعلان التعاطف مع قتلة الأطفال ومدمري المستشفيات وهادمي الكنائس والمساجد، غير خجلين من «التضامن» مع الجزار، في وقت يلقي الكثير من الإسرائيليين بمسؤولية ما حدث على قيادتهم السياسية، وتتهم الصحافة الإسرائيلية نتنياهو شخصياً بالتخطيط المسبق للمواجهة في غزة، ولأهداف انتخابية وسياسية بحتة.
إن غطرسة «إسرائيل» وقدرتها على السيطرة على الفلسطينيين تكشفت وهماً من شأنه فقط أن يضع أمن الاحتلال في مهب المراجعات المستمرة، لقد وجدت 22 مستوطنة نفسها لساعات تحت سيطرة المقاومة، والنظام الذي بنته الولايات المتحدة في الشرق الأوسط طوال عقود وجد نفسه مستباحاً.. إن فرانكنشتاين الذي غذاه الغرب يقبع جريحاً ومهاناً ومدمى.. هو أشبه بجثة تتآكل وتتفسح ولا تحتاج إلا إلى حفرة.. إن «دولة» الاحتلال عالقة، وهويتها مرتبطة إلى الأبد بأرض لا تزال محرمة، لم تكن، ولن تكون في أي يوم ملكاً لها.