حرب غزة تضع الهيمنة الأمريكية على المحك
عناية ناصر
تحاول وسائل الإعلام الأمريكية حالياً إعادة توجيه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الحالي نحو صعود الصين، حيث قارن المقال الذي نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” بعنوان “انقسامات عالمية جديدة تلوح في الأفق مع ذهاب بايدن إلى إسرائيل وبوتين إلى الصين”، بشكل مباشر بين زيارة الرئيس جو بايدن لـ “إسرائيل” وزيارة الرئيس فلاديمير بوتين للصين. وأعربت العديد من وسائل الإعلام والباحثين الأمريكيين عن أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يوفر فرصاً جديدة للصين وروسيا “لإصلاح النظام الدولي القائم”.
ومن وجهة نظر الصين، كان الأمر الأكثر جدارة بالمقارنة هو أنه، عندما اندلع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ذكر تقرير صادر عن لجنة مكونة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي قام بتعيينها الكونغرس الأمريكي أن الولايات المتحدة يجب أن تكون مستعدة لردع وهزيمة الصين وروسيا في وقت واحد. في الوقت الحالي، فإن الولايات المتحدة “غير مستعدة” لمواجهة التحديات الوجودية المحتملة في الفترة 2027-2035 وما بعدها.
إن الأسباب الكامنة وراء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي معقدة للغاية، ومع ذلك، فمن المسلم به حالياً على نطاق واسع أن تهميش القضية الفلسطينية من قبل الولايات المتحدة والقوى الأوروبية هو عامل مساهم رئيسي، وذلك لأن الولايات المتحدة وأوروبا أضعفت بشكل كبير قدرتها على دعم النظام العالمي القائم.
لقد تم بناء النظام العالمي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في المقام الأول من قبل الولايات المتحدة والقوى الأوروبية، ولكن هذا النظام يحتوي بطبيعته على تضارب المصالح الجيوسياسية . فهو في الأساس عبارة عن توزيع للسلطة والقوة والمصالح بقيادة الولايات المتحدة، ومن الطبيعي أن يتأثر بشكل مباشر بالتغيرات السياسية والاقتصادية داخل دول الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
فمن مؤتمر مدريد في تشرين الأول 1991 إلى توقيع اتفاقيات أوسلو في عام 1993، وحتى محاولات إدارة ترامب تسوية العلاقات بين العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية، أبرزت العملية برمتها التناقضات المتأصلة التي لا يستطيع النظام القائم حلها، كما سلطت الضوء أيضاً على احتمالية عودة هذه التناقضات إلى السطح.
إن صعود القوى الناشئة يشكل تحدياً للبنية القائمة للسلطة السياسية والاقتصادية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، وفي الشرق الأوسط، تجد الولايات المتحدة صعوبة متزايدة في السيطرة على القوى الإقليمية المختلفة، كما أن محاولاتها لاستخدام قوتها المهيمنة لتعزيز هيمنتها تعمل في الأساس على تقويض البنية التي تسعى إلى الحفاظ عليها، كما يتجلى في فشل سياسة الولايات المتحدة في العراق و”مبادرة الشرق الأوسط الكبير”.
لقد أدت التغيرات التي طرأت على السياسة الداخلية والهياكل الاقتصادية في الولايات المتحدة وأوروبا، وخاصة الاستقطاب السياسي، إلى انخفاض قدرة الحكومات الحالية على الحسم السياسي. ولم تعد الولايات المتحدة وأوروبا تمتلكان نفس القدرة على التوسط في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كما كانت الحال من قبل، حتى لو كانت الحكومات الحالية لديها الرغبة في القيام بذلك . ولهذا السبب فإن زيارة الرئيس جو بايدن لـ “إسرائيل” لم تسفر عن أي نتيجة سلمية ذات معنى.
لقد اشتدت الصراعات الجيوسياسية القائمة ضمن النظام الحالي بسبب تغير ديناميكيات القوى العظمى، وكان الصراع بين روسيا وأوكرانيا مثالاً بارزاً. وبينما تركز الولايات المتحدة وأوروبا على التعامل مع روسيا، فإن الهجوم الذي تشنه المقاومة الفلسطينية يخدم كتذكير بأن الشرق الأوسط يشكل أيضاً معقلاً للصراع الجيوسياسي . بالإضافة إلى ذلك، تتشابك مصالح الولايات المتحدة وأوروبا بشكل عميق في هذه المنطقة.
لقد وصل التاريخ إلى نقطة تحول في تحول نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، وسوف تتسم هذه الفترة بالاضطرابات، وسوف تعود الصراعات القديمة إلى الظهور بطرق مختلفة. وقد وصف تشنغ يونغ نيان، عالم السياسة الصيني، “النظام القديم” بأنه يتفكك، وهذا لا يمكن تفسيره فقط بصعود الصين، حيث تنظر الولايات المتحدة إلى الصين باعتبارها منافساً رئيسياً لمصالحها الإستراتيجية، مما يظهر غطرسة واشنطن وجهلها على مستوى جيوسياسي عالمي أوسع وأطول أمداً . فهل يمكن الحفاظ على هذا النظام من خلال محاولة شيطنة الصين و محاولات احتوائها وتقييدها؟
إن الحفاظ بقوة على النظام القائم من خلال الوسائل الإستراتيجية التقليدية هو أحد الخيارات، لكن تعديل النظام الحالي بعقلية أكثر انفتاحا لتسهيل التواصل والتعاون بين القوى العالمية والإقليمية الكبرى، وبين دول الجنوب والشمال، وكذلك بين القوى الناشئة والقوى العظمى القديمة في بناء نظام جديد، هو خيار آخر.
والسؤال الحاسم الذي يطرح نفسه هنا هو كيف قد تستجيب الولايات المتحدة والغرب لهذه التغيرات؟ فهل هم على استعداد للتخلي عن السلطة، وهل هم على استعداد كاف لمثل هذا التحول في السلطة؟ إن تجدد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يشكل تحدياً خطيراً لهيمنة الولايات المتحدة ونظامها المهيمن.