دراساتصحيفة البعث

مجزرة كفر قاسم.. أنموذج للإيديولوجية الصهيونية

د. معن منيف سليمان
تعدّ مجزرة كفر قاسم، التي وقعت مساء يوم 29 تشرين الأول عام 1956، واحدة من أبشع المجازر التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية ضدّ شعبنا العربي في فلسطين المحتلة، وهي تمثّل تطبيقاً للقاعدة الإيديولوجية التي تأسّس عليها الكيان الإسرائيلي، فقد شغلت فكرة قتل وتهجير العرب حيّزاً كبيراً من تفكير قادة الصهاينة، ولذلك لم تكن كفر قاسم استثناءً في تاريخ الكيان الصهيوني. وإذا ما تقصّينا ملابسات هذه المجزرة لوجدنا تشابهاً كبيراً بينها وبين سائر المجازر التي قبلها والتي بعدها من حيث الأهداف، ومن حيث المسوّغ الذي تلجأ إليه القيادة الإسرائيلية بعد كل مذبحة تقوم بها وتكتشف، فتعمد إلى تشكيل لجنة أو عقد محكمة كوسيلة لامتصاص غضب الرأي العام العالمي، ثم تدفن الجريمة أخيراً في غيابة النسيان.

في مجزرة كفر قاسم، قام حرس الحدود الإسرائيلي بقتل تسعة وأربعين مواطناً عربياً من أهل كفر قاسم، القرية العربية الواقعة في أقصى جنوبي المثلث العربي المحاذي لرأس العين ولقريتي كفربرا وجلجولية، وتبعد عن تل أبيب مسافة /30/ كم فقط، وسقط هؤلاء الأبرياء بأمر مسبق وقتلوا بدم بارد، عشية العدوان الثلاثي على مصر، الذي تآمرت فيه بريطانيا وفرنسا و”إسرائيل” على مصر بعد أن أعلن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، وكان من جملة أهداف اشتراك “إسرائيل” في هذه الحرب خلق ظروف تسهّل لها تصفية القضية الفلسطينية وتهجير المواطنين العرب القاطنين على الحدود الشرقية وفق ما صرّح العديد من الضباط والسياسيين الإسرائيليين، في ذلك الوقت، وكان لقسم كبير منهم مسؤولية مباشرة عن المجزرة.

وهكذا وضع الصهاينة مخطّطاً لترحيل وإجلاء المواطنين العرب الذين بقوا متشبثين بأراضيهم، وقد أرادوا أن تكون كفر قاسم مدخلاً آخر لتهجير العرب. لقد بدأت أحداث المجزرة عندما قرّرت قيادة الجيش الإسرائيلي أن تفرض حظر التجول على عدد من القرى العربية الحدودية، وبناءً على ذلك استدعى قائد كتيبة حرس الحدود المقدم “يسخار شدمي” الرائد “شموئيل ملينكي” وأبلغه المهام الموكولة إلى وحدته والتعليمات المتعلقة بطريقة تنفيذها، مشدّداً على ضرورة تطبيق قرار منع التجول لا باعتقال المخالفين، بل بقتلهم “قتيل واحد أو عدد من القتلى أفضل من الاعتقالات”. فالقتل والإبادة الجماعية، حسب فتاوى حاخامات القتل والجريمة، حقّ مطلق لا يخضع لأي قانون وضعي مهما كان مصدره وغايته، وما من شك أن لهذه الفتاوى تأثيرها العملي، ولاسيما لدى السلطات العسكرية، ذلك أن الجنود الإسرائيليين أقدموا على قتل العرب العزّل في كفر قاسم، وكان جزاء القتلة منهم إما إخلاء سبيلهم نهائياً وإما أحكام مخففة جداً أو عفو بعيد الأثر إلى حدّ تقليص العقوبة إلى الصفر.

وعلى كلّ حال، ومع اقتراب الساعة الخامسة كانت وحدات حرس الحدود منتشرة على مداخل القرية، حيث أوقفوا كلّ شخص عائد إلى القرية وتأكدوا من أنهم من سكان كفر قاسم وأمروهم بالاصطفاف على حافة الطريق وأطلقوا النار عليهم ثم أخذوا ينتقلون إلى مكان آخر ويوقفون جماعة أخرى من العائدين فيطلقون النار عليهم جماعة تلو الأخرى حتى بلغ عدد ضحايا المجزرة تسعاً وأربعين ضحية من النساء الأطفال والرجال العزّل، وقد جنّدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي كل طاقاتها وأجهزتها لمنع انتشار خبر المجزرة التي ارتكبها جنودها، حيث عزلت القرية تماماً، ومنعت تداول خبر المجزرة بالصحف، ولكن مع مرور عدّة أيام انكشفت الأمور واضطرّت الحكومة الإسرائيلية برئاسة الإرهابي “ديفيد بن غوريون” إلى إصدار بيان في 11 تشرين الثاني 1956، أعلنت فيه: “إنه في ذلك التاريخ أعلن منع التجول للمحافظة على حياة الناس، وأن عدداً من الناس الذين عادوا إلى بيوتهم بعد فرض منع التجول أصيبوا على يد حرس الحدود وعيّن رئيس الحكومة لجنة تحقيق لتستوضح ظروف الحادث”.

وكانت لجنة التحقيق قد أحالت أفراد حرس الحدود الذين نفّذوا المجزرة إلى محاكمة عسكرية وامتنعت عن محاكمة “شدمي”، وصدرت الأحكام بحق الجنود فقط حيث حكم عليهم بالسجن ما بين /15-17/ عاماً، ثم قدّم هؤلاء إلى محكمة الاستئناف العسكرية، حيث قرّرت تخفيف المحكومية فوصلت إلى حدّ إلغاء نصف مدّة السجن، ثم أحيل هؤلاء المجرمون إلى لجنة إطلاق السراح التابعة لجهاز السجون فقامت بتخفيض ثلث مدّة السجن التي حكم بها عليهم، وفي عام 1960، أطلق سراح آخر مرتكبي المجزرة.

اليوم وبعد مرور سبعة وستين عاماً على تلك المجزرة لا تزال سياسة الاستيطان والتطهير العرقي والقتل والإبادة الجماعية مستمرّة، وقد بدت أبشع فصولها اليوم في مجزرة غزّة وقصف مستشفى المعمداني التي ارتكبها سلاح الجو الصهيوني في 17 الشهر الجاري، ما يؤكّد أن المقاومة هي الخيار الوحيد لصدّ الغزوة الاستيطانية الصهيونية وليس التفاوض العبثي أو التطبيع، وإجبار المجتمع الدولي لكي يقوم بدوره المطلوب لوقف المجازر في فلسطين، بما في ذلك إحالة قادة الصهاينة إلى المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.