غزة والشعب الفلسطيني على حافة النسيان الإعلام الغربي يتغاضى عن جرائم الحرب في غزة لتبرير العقاب الجماعي
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
الصور التي ظهرت من غزة خلال الأسابيع القليلة الماضية لا يمكن نسيانها بسهولة، فالمدينة التي كانت نابضة بالحياة تحولت إلى أنقاض على يد قوات الكيان الإسرائيلي. وقد ظهرت خلال المؤتمر الصحفي الذي عقدته وزارة الصحة في أعقاب المجزرة جثث الضحايا الفلسطينيين المكدسة حول المنصة. وأطفال صغار، بادية عليهم الصدمة، ومغطون بدماء عائلاتهم وأنقاض منازلهم التي لم تعد موجودة. كما كان الآباء، في حالة هستيرية من الحزن، وهم يحملون أطفالهم الموتى والمحتضرين.
ووسط كل الألم والمعاناة التي يشهدها العالم كل يوم، ومن بين كل القصص غير المفهومة التي تظهر، تبرز حقيقة غير عادية، حيث يبذل الفلسطينيون جهوداً كبيرة لضمان سماع أصواتهم، إذ تخبرهم عقود من الأدلة أن وسائل الإعلام ستفهم الأمر بشكل خاطئ، لذا فهم يستخدمون آخر ما لديهم من قوة أثناء الحصار وأحياناً لحظاتهم الأخيرة في الحياة لتصحيح المعلومات أمام الرأي العام العالمي. ورغم كل هذه الصور المؤلمة يواصل الصحفيون الفلسطينيون، الذين تعرضت منازلهم وعائلاتهم وزملائهم وأماكن عملهم مؤخراً للقصف من قبل قوات الكيان المحتل،إجراء مقابلات مع وسائل الإعلام الغربية. ومما لا شك فيه أنهم يشعرون بضغوط هائلة للتعامل مع المعلومات المضللة المتفشية من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية، وذلك لتصحيح استخدام وسائل الإعلام للغة السلبية، وإدخال كلمات مثل “الفصل العنصري” في التقارير التاريخية . ويستخدم الفلسطينيون كل يوم أيضاً وسائل التواصل الاجتماعي لنقل الحقائق على الأرض، وتوثيق عنف الاستعمار الاستيطاني.
تشكل هذه الجهود الرامية إلى كشف الحقيقة إدانة قوية لوسائل الإعلام الأمريكية، حيث يدرك الفلسطينيون ما بدأ الكثيرون في جميع أنحاء العالم في فهمه، بينما تقف غزة والشعب الفلسطيني على حافة النسيان، فإن الصحافة لن تفعل شيئاً سوى التغاضي عن جرائم الحرب المدعومة من الولايات المتحدة، وتبرير العقاب الجماعي، و اختلاق وترويج الروايات التي تزيد من محو حقوقهم وواقعهم.
و ي هذه اللحظة المزلزلة والمحددة للتاريخ، تفشل وسائل الإعلام الأمريكية، فعلى الرغم من الحقائق على الأرض، ترفض العديد من وسائل الإعلام الأمريكية تعريف ما يحدث في غزة بأنه إبادة جماعية، بحجة عدم وجود أدلة على هذا المصطلح. ولكن في الواقع، فإن تعريف الإبادة الجماعية ومقاييس تحديدها بموجب القانون الدولي يتطلب بالضبط نوع الأدلة التي نشهدها الآن، مما يعني أن أي وسيلة إخبارية تدعي أنها تنتج صحافة “قائمة على الأدلة” لن تستخدمها، وذلك لأن كلمة “إبادة جماعية” تنتهك مبادئها المعلنة.
الإبادة الجماعية
إن فهم الإبادة الجماعية يعتمد إلى حد كبير على كيفية تعريفها من قبل رافائيل ليمكين، المحامي اليهودي الذي قام بحملة لتأسيس اتفاقية الإبادة الجماعية، بينما كانت المحرقة تتكشف خلال الحرب العالمية الثانية. التعريف واضح وموجز: نية التدمير، كلياً أو جزئياً، لمجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية. كما أن هناك أيضاً مقاييس ومعايير قياس واضحة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية والقانون الدولي. يقوم المراسلون والصحفيون في جميع أنحاء الولايات المتحدة من خلال الخدع الصحفية، بما في ذلك استخدام اللغة السلبية، والعناوين الرئيسية المتغيرة باستمرار، والتحيز لكلا الطرفين، وخرافة الموضوعية، بتأجيج الإبادة الجماعية التي ترفض غرف الأخبار الخاصة بهم الاعتراف بحدوثها.
وفي هذا السياق أصدر “مركز الحقوق الدستورية” إحاطة طارئة في 18 تشرين الأول تناولت بالتفصيل جريمة الإبادة الجماعية التي ارتكبتها “إسرائيل” بحق الشعب الفلسطيني، وكيف تكون الولايات المتحدة متواطئة فيها، حيث أشار تقرير الإحاطة إلى أن “هناك قضية معقولة وذات مصداقية، استناداً إلى أدلة واقعية قوية، مفادها أن “إسرائيل” تحاول ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، إن لم تكن ترتكبها فعلياً، في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحديدا ًضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
ويوضح التقرير أيضاً أن الولايات المتحدة لم تفشل في الوفاء بالتزامها بمنع ارتكاب الإبادة الجماعية فحسب، بل هناك أيضاً حجة معقولة وذات مصداقية يمكن تقديمها بأن الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة لتعزيز العملية العسكرية الإسرائيلية، وعملية الإغلاق والحملة ضد السكان الفلسطينيين في غزة ترقى إلى مستوى التواطؤ في الجريمة بموجب القانون الدولي. وما تم استبعاده كثيراً من التغطية الإخبارية منذ هجمات المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول هو أنه “لا يمكن السماح لأي دولة أو فرد على الإطلاق بتبرير الإبادة الجماعية باسم الدفاع عن النفس”.
نسف الحقيقة
لكن لن يتم معرفة ذلك إذا كان المرجع لتلك الأحداث ببساطة هو مصادر وسائل الإعلام الرئيسية في الولايات المتحدة. ومن خلال الاستمرار في تأطير هذا الأمر على أنه حرب بين “إسرائيل” والمقاومة، تستمر غرف الأخبار في جميع أنحاء البلاد في نسف النزاهة الصحفية وتجاهل نمط “إسرائيل” في تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم.
إن المسؤولين الإسرائيليون واضحين للغاية في لغتهم عند الإشارة إلى الفلسطينيين، حيث نشر مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تغريدة على تويتر مفادها أن الهجوم الإسرائيلي على غزة هو “صراع بين أبناء النور وأبناء الظلام، بين الإنسانية وشريعة الغاب”، وكرر موقفاً عنصرياً مماثلاً في خطاب ألقاه مؤخراً قائلاً: “نحن أهل النور، وهم أهل الظلام”. في سياق متصل وصف دان غيلرمان، السفير الإسرائيلي السابق لدى الأمم المتحدة، في مقابلة مع قناة “سكاي نيوز” البريطانية الفلسطينيين بأنهم “حيوانات غير إنسانية”، و سمح له الصحفي الذي أجرى المقابلة معه بالاستمرار بلغته اللا إنسانية. وقال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت: “نحن نحارب الحيوانات”.
من خلال فشلها في التنديد باستخدام هذه الأطر العنصرية البيضاء لغزو العرق المتحضر لعرق همجي أو غير متحضر، ترفض الولايات المتحدة ووسائل الإعلام الغربية الأخرى ضمنياً الاعتراف بالفلسطينيين كبشر بما يكفي لارتكاب إبادة جماعية ضدهم. تكرر العديد من المقالات كلمات الإحاطات الحكومية الأمريكية ومسؤولي الجيش الإسرائيلي، مما يعزز تذرع حكومة الكيان بما يسمى بالدفاع عن النفس في حصارها وتهجيرها 1.4 مليون من أصل 2.3 مليون فلسطيني في غزة.
قتلى بالجملة
لقد بلغ إجمالي القصف الإسرائيلي المستمر أكثر من 12 ألف طن من المتفجرات منذ 7 تشرين الأول وهو ما يعادل القوة التفجيرية للقنبلة النووية الأمريكية التي أسقطت على هيروشيما باليابان عام 1945. وخلال 19 يوماً، قتلت “إسرائيل” المزيد من الأشخاص، أي أكثر من 6500 شخص، بينهم أكثر من 2700 طفل، ولا يزال كثيرون آخرون محاصرين تحت الأنقاض. تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن عدد الأشخاص الذين قتلوا بسبب قصف قوات الاحتلال خلال الـ 19 يوماً الماضية أكبر من الذين ماتوا طوال عام 2022. كما أدى قصف “إسرائيل” في غزة إلى مقتل 16 عاملاً في مجال الرعاية الصحية، و35 شخصاً وعاملاً في المجال الإنساني، وعمال الإغاثة والموظفين في وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، كما استهدفت الصحفيين وعائلاتهم، مما أسفر عن وفاة أكثر من 20 صحفياً فلسطينياً. م ن خلال حجب المساعدات وقطع الكهرباء والمياه،حكمت “إسرائيل” أيضاً على آلاف آخرين بأزمات صحية ووفيات بطيئة.
وفي تحليل نشرته مجلة” التيارات اليهودية”، وصف الباحث الإسرائيلي في “الهولوكوست” راز سيغال هجوم حكومة الكيان على قطاع غزة بأنه “حالة نموذجية من الإبادة الجماعية التي تتكشف أمام أعيننا” . وفي مقابلة مع برنامج “الديمقراطية الآن!”، قال سيغال أيضاً إن استثنائية “إسرائيل” ومقارناتها بين ضحاياها الفلسطينيين و”النازيين” تُستخدم “لتبرير، وترشيد، وإنكار، وتشويه، والتنصل من العنف الجماعي ضد الفلسطينيين”. لم يكن سيغال وحده من تحدث عن عمليات التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل” ، فقد أكد العديد من المؤرخين والعلماء والمنظمين والفلسطينيين الحقيقة: إنها حقيقة أن نسمي “إسرائيل” كيان فصل عنصري ارتكبت تطهيراً عرقياً. ومن الحقائق أيضاً أن ردود الفعل على الإبادة الجماعية لا تتم تغطيتها بشكل صحيح من قبل مصادر وسائل الإعلام الرئيسية، حيث كانت هناك احتجاجات حاشدة في جميع أنحاء الولايات المتحدة تطالب بوقف إطلاق النار وإنهاء الاحتلال.
توجيه الخطاب الأمريكي
أشارت الهيئة الوطنية لمراقبة وسائل الإعلام أن إدارة بايدن تقمع بنشاط مناقشة خفض التصعيد، وذكرت صحيفة “هافينغتون بوست” على سبيل المثال أن مذكرة وزارة الخارجية وجهت الموظفين بعدم استخدام عبارات “خفض التصعيد أو وقف إطلاق النار”، و”إنهاء الحرب””، و العنف وسفك الدماء”، و”استعادة الهدوء” في المواد الصحفية المتعلقة بالإبادة الجماعية المستمرة التي ترتكبها “إسرائيل” ضد الفلسطينيين، وقد اتبعت وسائل الإعلام الإخبارية الأمريكية هذه الاتجاهات إلى حد كبير . نادراً ما ذكر تحليل الهيئة الوطنية لمراقبة وسائل الإعلام الصادر في 24 تشرين الأول للبث التلفزيوني الأمريكي بين 12 و18 تشرين الأول مطالب وقف إطلاق النار، وأشار إلى أن برنامج أخبار العالم المسائية على قناة ” أي بي سي ” و أخبار “سي بي إس” المسائية، و أخبار الليل” على قناة ان بي سي”، والبرنامج التلفزيوني ” بي بي إس نيوز آور” بثت ما مجموعه 105 مقاطع رئيسية حول “إسرائيل” وغزة . ثمانية فقط من تلك الأجزاء تضمنت كلمة “وقف إطلاق النار” أو شكلاً من أشكال كلمة “خفض التصعيد”. و بثت قناة ” ان بي سي”، و ” بي بي إس” ثلاثة حلقات ذكر كل منها إشارة إلى وقف إطلاق النار، وبثت شبكة أخبار “سي بي إس” مقطعين، ولم تبث “إيه بي سي” أياً منها.
إن وسائل الإعلام هي انعكاس للأمة، والولايات المتحدة، مثل “إسرائيل”، هي دولة استعمارية استيطانية . ارتكبت إبادة جماعية ضد السكان الأصليين، واستعبدت وعذبت ملايين الأفارقة، ومن خلال رسمها للحدود وسياساتها العدائية، تحدد من يستحق الحياة والموت. واليوم، تضع الوكالات الفيدرالية الأمريكية المهاجرين في معسكرات، وتستخدم أساليب قاسية وغير عادية لردع الهجرة، وتصنع طرقاً للموت للمهاجرين في المناطق الحدودية.
ترتكب الولايات المتحدة فظائع في جميع أنحاء العالم وتطلق عليها اسم” الحرية” . إن بقية العالم الغربي ينحني أمام الولايات المتحدة، وهذه الدول القومية الغربية، والتي خلقتها “إسرائيل”، تملي من يستحق الإنسانية ومن لا يستحقها، ووسائل الإعلام الأمريكية تلتزم إلى حد كبير بهذا الأمر.
تتمتع وسائل الإعلام بسلطة غير متناسبة لتصنيع الموافقة على الإبادة الجماعية بناءً على السياق الذي يختار الكتاب والمحررون تضمينه، كما إن تاريخ صناعة الإعلام الأمريكية مليء بإثارة الحروب واستغلال بعض الأصوات الأكثر عنفاً التي تدعو إلى الغزوات وجرائم الحرب والتطهير العرقي.
نشر الأكاذيب
لعبت الصحافة الجنوبية البيضاء دوراً حاسماً في نشر الأكاذيب والمعلومات المضللة فيما يتعلق بعمليات الإعدام خارج نطاق القانون، وهي حقيقة كافحت الصحفية الأمريكية من أصل أفريقي إيدا بي ويلز للاعتراف بها . لقد أمضى المحررون على أعلى مستوى من المصادر الإعلامية الراسخة والموثوقة العقود القليلة الماضية في المشاركة في تجريد العرب من إنسانيتهم في جميع أنحاء العالم لإزالة حساسية القراء وتبرير الحروب التي تقودها الولايات المتحدة. يتشكل العاملون في مجال الإعلام اليوم من خلال المعلومات التي اختار الكتاب والمحررون السابقون تقديمها لنا ومن اختاروا إضفاء الطابع الإنساني عليها، لكن لا يمكن إلقاء اللوم على في الماضي. ففي السنوات الأخيرة، قامت غرف الأخبار بطرد المراسلين بسبب دعمهم للفلسطينيين، وتستمر غرف الأخبار القديمة في تصوير الإبادة الجماعية على أنها “مظالم”. تتمتع هذه الإجراءات بقوة مقنعة تشكل كيفية استمرار الناس، بما في ذلك المسؤولون المنتخبون، في التفكير والحديث عن الاحتلال. وبينما تتراجع غرف الأخبار عن الادعاءات التي لا أساس لها، فإن ذلك يجعل الناس أكثر استعداداً لتصديق ونشر المعلومات الخاطئة حول الفلسطينيين.
تتمثل المكونات الأساسية في الحفاظ على أنظمة القمع في حجب المعلومات وتضخيم صوت الظالمين للتحريض على العنف وتصنيع الموافقة على الإبادة الجماعية. ويكون الفشل في أداء المهام عندما يرفع سرد التاريخ وجهة نظر الظالم ويسكت المضطهدين. وقد أدركت الكاتبة الأمريكية أودري لورد ذلك عندما كتبت عن دعم الحكومة الأمريكية للفصل العنصري في جنوب إفريقيا والترابط بين تحرير السود في جميع أنحاء العالم . وكتبت لورد: “نحن مواطنون في أقوى دولة في العالم، وهي دولة تقف على الجانب الخطأ من كل نضال من أجل التحرير على وجه الأرض”.
أثناء الحرب العالمية الثانية، نشرت الصحف الأمريكية بشكل روتيني تقارير عن القتل الجماعي للشعب اليهودي، لكن التقارير كانت غير دقيقة وغالباً ما كانت تفتقر إلى الأدلة. ووفقاً لمتحف ذكرى “الهولوكوست” بالولايات المتحدة، من المحتمل أن العديد من الأمريكيين رفضوا هذه التقارير بسبب “القصص المبالغ فيها عن الفظائع الألمانية خلال الحرب العالمية الأولى”. لا يمكن ارتكاب ذات الأخطاء، فالأدلة موجودة. ومن سوء الممارسة الصحفية مشاهدة الحقائق الصعبة الواضحة للإبادة الجماعية أمامنا والتظاهر بأنها لا تحدث . إنه فشل أخلاقي رؤية تهجير وقتل الشعوب وتفجيرات المباني السكنية والمدارس ومخيمات اللاجئين والمساجد والكنائس بأكملها وعدم وصفها بوضوح بالإبادة الجماعية. عندما تجاهل الحقيقة لصالح حماية الظالم، فيخلق صمتاً تقشعر له الأبدان للأشخاص الذين يعتمدون على الإعلام في نقل الحقيقة وتسليط الضوء على الظلم . إن الأساس الأخلاقي يساعد فقط في وضع الحقيقة في سياقها لأن الصحافة لا تخلو من منظور على الإطلاق.