المشكلة في الردع الأمريكي..
طلال ياسر الزعبي
نزلت عملية “طوفان الأقصى” نزول الصاعقة على الإدارة الأمريكية التي ظنّت أنها تمكّنت من تنويم المنطقة على مشاريع التطبيع التي ربطت فيها بعض الدول، ابتداء من اتفاقية كامب ديفيد وليس انتهاء باتفاقيات أبراهام، في وقت كانت أشغلت روسيا بالحرب داخل أوكرانيا، بل في وسط أوروبا، لتتفرّغ لما تسمّيه احتواء الصين أو منع صعودها إلى ذروة الهرم العالمي، من خلال إشغالها هي الأخرى بصراعات في محيطها.
فالمتابع للمشهد العالمي بعد العملية البطولية التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1948، يستطيع أن يستشفّ الطريقة التي تعاطت فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون مع الموقف، إذ انبرى الرئيس الأمريكي وخلفه أتباعه من الزعماء الغربيين إلى إدانة العملية والإعلان عن تقديم الدعم الكامل للكيان الصهيوني في وجه ما سمّوه “الإرهاب” الفلسطيني، وإعطاء ضوء أخضر لهذا الكيان لارتكاب أبشع الجرائم بحق أهالي القطاع، محاولين طبعاً قطع العملية عن بعدها الزمني، حيث جاءت هذه العملية بعد 75 عاماً من الاحتلال الصهيوني المتواصل لفلسطين، والذي عمل على إلغاء أيّ أمل في قيام دولة فلسطينية على حدود عام 1967 من خلال القضم المتواصل لأراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس، والتضييق عليهم لإجبارهم على الهجرة وترك منازلهم من خلال مصادرة الأراضي والأملاك، والاعتقالات المستمرة، وتوسيع الاستيطان وتقطيع أوصال الضفة لمنع قيام أي كيان سياسي مستقل، فضلاً عن الحصار المطبق على قطاع غزة وتحويله إلى سجن مفتوح، يتم تهجير السكان إليه من الضفة والقدس، كمقدّمة لـ “ترانسفير” جماعي للشعب الفلسطيني من كامل فلسطين التاريخية.
ولكن العملية بشكلها النهائي أثارت مخاوف الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من أن الكيان الصهيوني المصطنع بقرار غربي بات مهدّداً وجودياً، بحيث يمكن أن تكون مقدّمة لزوال هذا الكيان الذي عمل الغرب على تثبيته طوال العقود الماضية كقاعدة متقدّمة له، يتم من خلالها التآمر على جميع الشعوب المحيطة ومنعها من التنمية والتقدّم وإبقائها تحت الهيمنة الغربية، فمشهد القضاء على ما تسمّى “فرقة غزة” وأسر ضباطها وجنودها كان بحدّ ذاته حرباً نفسيّة وقعت على رأس الغرب الجماعي وقع الصاعقة، الأمر الذي دفع الغرب الأطلسي تحديداً إلى الشعور بالهزيمة الكاملة في الميدان، حيث لا يزال يراقب هزيمته الاستراتيجية في مواجهة روسيا عبر أوكرانيا، فكانت “طوفان الأقصى” بمنزلة إناء ماء بارد صُبّ على رؤوس القادة الغربيين، وخاصة قائد الأوركسترا الأمريكي، الذي ظهر جليّاً قلقه على سقوط قاعدة أخرى له في العالم بعد أوكرانيا، حتى لو كان هذا السقوط جزئياً، لأنه شعر بمدى الإحباط والتخبّط اللذين يسيطران على الحكومة الصهيونية وأركانها، كما شعر بالانهيار النفسي الذي تعانيه الأجهزة الصهيونية في الاستخبارات والأمن والجيش.
والمعادلة الواضحة في كل ذلك، هي أن الجيش الصهيوني المكوّن أساساً من مرتزقة تمّ جلبهم من كل أصقاع العالم، لا يملك عقيدة يقاتل من أجلها لأنه يعلم يقيناً أن هذه الأرض ليست أرضه ولا حقّ له فيها، أما الشعب الفلسطيني فهو يدافع عن أرضه التاريخية وشرفه وعرضه، وبالتالي فإن عقيدته راسخة رسوخ الأرض التي يقاتل من أجلها.
لذلك لا يمكن النظر إلى الضوء الأخضر الذي منحه الغرب الجماعي لـ”إسرائيل” في غزة على أنه ترميم لصورة جيش الاحتلال الصهيوني ونظرية الردع والجدار الحديدي والتفوّق العسكري، وغير ذلك من المصطلحات التي يُراد من خلالها إبراز هذا الجيش على أنه القوة الضاربة الوحيدة في المنطقة، وإنما هو ترميم لصورة الولايات المتحدة الأمريكية التي تهشّمت في كثير من الأماكن في العالم، وخاصة في أوكرانيا وإفريقيا وقبلها في أفغانستان، ودول الغرب الأخرى طبعاً ليس لها إلا أن تكون قطيعاً يقوده الأمريكي خدمة لهذه الصورة.