دراساتصحيفة البعث

الاجتياح البري.. “إسرائيل” تتردّد والمقاومة تتوعّد

د. معن منيف سليمان

يواجه العدوَ الصهيوني تردّدٌ كبيرٌ في اجتياح غزة جرّاء أسباب إقليمية وداخلية، فضلاً عن تردّي الحالة النفسية والمعنوية التي يعاني منها عناصر جيشه. ففي أول تجربة للحرب البرية توغّلت مدرعات العدو الصهيوني لعدّة أمتار بعد الجدار الحدودي مع قطاع غزة، وجدت نفسها في كمين محكم للمقاومة الفلسطينية التي نجحت في تدمير عدد من آليات ومدرّعات العدو وقتل عددٍ من الجنود وجرح العشرات، ليجد الجيش الصهيوني نفسه مجبراً على الانسحاب، وهو ما يعني إخفاق الخطة الأولى لاجتياح غزّة برّاً.

إن المجتمع الإسرائيلي تعرّض يوم السابع من تشرين الأول، لأكبر صدمة في تاريخه، صدمة لم يسلم منها ومن تبعاتها أيّ جزء منه. فقد انكسرت هيبة الجيش وتهاوى الرّدع وانكشفت هشاشة الحراسة الأمنية للحدود، وأخفقت المخابرات إخفاقاً ذريعاً، وتخبطت القيادة السياسية في القرارات، وأحسّ الجمهور الإسرائيلي بعدم الثقة بحاله وبقياداته العسكرية والسياسية. وتعالت من كل حدب وصوب دعوات للانتقام والرّدع والقضاء على حركات المقاومة الفلسطينية.

ولذلك فإن الشارع الإسرائيلي يضغط على الحكومة، ويطالب بالحسم وليس مجرّد توجيه ضربات للمقاومة. كما أن هذا الشارع يطلب المزيد من القتل والدمار في غزّة، وهو يعيش حالة من هستيريا الانتقام ومن الخوف والرعب من الفلسطينيين، وتدلّ استطلاعات الرأي أن ثلثي المجتمع الإسرائيلي يدعم عملية برّية في قطاع غزّة!.

لقد نجحت المقاومة في إلحاق خسائر كبيرة للجيش الإسرائيلي في الأرواح والممتلكات، ونتيجة لذلك جاء الرّد الإسرائيلي قوياً وعنيفاً، وذلك بتدمير معظم البنية التحتية السكنية لقطاع غزة، واستهداف آلاف المدنيين، وذلك استعداداً للعملية البرية الموسعة بهدف معلن وهو القضاء على فصائل المقاومة.

وإلى هذه اللحظة ما زال العدوان في المرحلة الأولى من هذه الحرب المستعرة، وهي مرحلة القصف الجوي. والجيش الإسرائيلي يواصل استعداداته للمرحلة التالية وهي العملية البرية، وذلك بتجميع وحداته وآلياته على أطراف قطاع غزّة المدمّر تقريباً، الذي يعاني أزمة إنسانية غير مسبوقة.

وعن أسباب تأخر العملية البرية، يرى خبراء أن الجيش الإسرائيلي ما زال يواصل حشد قواته على أطراف قطاع غزّة، وما زال يجري تقييمات للوضع العسكري والميداني، فضلاً عن حرصه على جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن قدرات فصائل المقاومة وتحصيناتها، وخاصة في موضوع الأنفاق التي تمثّل أكبر “كابوس مرعب” لقوات الاحتلال، ذلك أن “إسرائيل” تواصل تدريب قواتها على عملية الاقتحام لأن العملية البرية تواجه تحديّات كثيرة تجعل قرار البدء فيها قراراً صعباً، لأن قادة الجيش الإسرائيلي يدركون ما ينتظرهم في قطاع غزة من مقاومة شرسة ستزيد من خسائر الإسرائيليين في الأرواح والمعدات، ما يزيد من زمن الإعداد لهذه المواجهة البرية. مع توقع مراقبين أن العمليات البرية قد تبدأ خلال هذا الأسبوع لأن استعدادات الجيش الإسرائيلي أوشكت على الانتهاء والدعم العسكري الأوروبي والأمريكي يتواصل، وهو ما يؤكّد اقتراب موعد الهجوم البري الذي سيتركز على شمالي القطاع وعلى مدينة غزة التي دمّرت الغارات الإسرائيلية أغلب مبانيها.

وفي الحقيقة هناك عدّة أسباب تربك العدو الصهيوني وتؤثّر على اتخاذ قرار إعلان الاجتياح البري، ذلك أن المنطقة قد تواجه السيناريو الأسوأ وهو حرب إقليمية، وهو سيناريو وارد حال دخول حلف المقاومة في إيران واليمن وسورية ولبنان والعراق على خط المواجهة ضد “إسرائيل”، وهو ما يقلق الولايات المتحدة وتتحسّب له كثيراً بدفع عدد من القطع البحرية وحاملات الطائرات إلى البحرين الأحمر والمتوسط، وفي تقدير الخبراء أن المواجهة الأقرب هي اشتعال الجبهة الشمالية حال بدء الحرب البرية في غزّة من دون أن تتوسّع إلى مناطق أو أطراف أخرى في الشرق الأوسط.

ومع اتساع رقعة الحراك الشعبي، وكذلك في العواصم الغربية، كل ذلك أربك حسابات قادة “إسرائيل” وكشف للعالم أن ما يجري في غزّة ليس حرباً بين المقاومة و”إسرائيل”، بل هي حرب أوسع وأشمل، إنها حرب عالمية بين الغرب الأطلسي وبين الشرق، وأن ما يجري هو بداية الحرب الفعلية.

وما نراه في الشارع من زخم نجح في إرباك حسابات الجميع، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة و”إسرائيل”، وهذا هو السبب الرئيسي في تأجيل الهجوم البري على قطاع غزة، لأن هذا السيناريو قد يدفع “إسرائيل” إلى الغرق في “وحل غزة”، وأن يكون حجم خسائرها البشرية فوق قدرتها على التحمّل، ذلك أن ارتفاع عدد الضحايا المدنيين الفلسطينيين سوف يؤلّب الرأي العام الدولي ويكشف حقيقة “إسرائيل” أمام العالم.

وفضلاً عن ذلك، فإن نتائج الاجتياح البرّي لن تكون محمودة بالنسبة للاحتلال، بل ستأتي بنتائج عكسية ويُضاعف من الضغوط على حكومة نتنياهو داخلياً، ولاسيما من ذوي الأسرى الإسرائيليين الذين سيخشون أن تودّي العملية البرية الإسرائيلية بحياة ذويهم.

وما يُستشفّ من التسريبات يبيّن أن هدف المرحلة الثانية للحرب يكمن في ممارسة ضغط شديد على المقاومة، بواسطة مضاعفة القصف الجوي الضخم وتوسيع العملية البرية تدريجياً، إذ تسابق “إسرائيل” الزمن بقوتها النارية الأعنف واستخدام كل الوسائل لكي تجبر المقاومة على التقدم بمقترح بشأن الأسرى والرهائن في غزّة، بما يمنح جيش الاحتلال المرونة الميدانية.

ومن هذا المنطلق يرفض جيش الاحتلال استخدام تعبير “الاجتياح البرّي”، وإنما توسيع العمليات البرية بالترافق مع تنفيذ أعنف قصف على قطاع غزّة منذ بدء العدوان قبل ثلاثة أسابيع. وفي حين يشدّد على سياسة الغموض والتعتيم بشأن ما جرى وسيجري في عملياته العسكرية الآخذة بالتصاعد، فقد قالت صحيفة “يديعوت أحرونوت”، إن القوات المقتحمة ما زالت في أراضي القطاع، وأنها توسّع عملياتها البرية. وهو ما أكّده المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي الذي قال إن القوات التي دخلت إلى قطاع غزة خلال الليل لا تزال في موقعها.

إن تصريحات وأحاديث قادة جيش الاحتلال التي تروّج للتحضير لتوغل عبر أطراف قطاع غزّة الشمالية والشرقية الشمالية والغربية الشمالية، أي عبر بلدتي بيت حانون وبيت لاهيا وشرق بلدة ومخيم جباليا، وغرب بيت لاهيا وجباليا، وشرق وشمال وغرب مدينة غزة، أي ما يعادل نصف مساحة قطاع غزة، مبالغ فيها، إذ أن أي توغّل بري لجيش العدو عبر أي محور من محاور القطاع، لن يتمكن من التقدّم سوى بضعة أمتار محدودة، لأنَّه سيواجه بمقاومة بطولية من أهالي القطاع، ذلك أن المقاومة مستعدّة للتصدي للعدوان وإيقاف التوغل البري، وستخوض معه حرب مدن وشوارع، وستجعل من مدن ومخيمات وأزقة وشوارع قطاع غزة مقبرة لجيش وقوات العدو.

وإذا ما بدأت “إسرائيل” عملية عسكرية ستكون عملية طويلة المدى وقد تستغرق شهوراً، وخاصةً في ظلّ الصعوبات المتوقع أن تواجهها القوات الإسرائيلية، في ظلّ خبرة الفصائل الفلسطينية في “حروب المدن” والصعوبات التي تواجهها القوات النظامية في مثل تلك البيئات والتضاريس، كما أن “نتنياهو” نفسه يحرص على إطالة أمد العمليات العسكرية، بوصفها الضامن لبقائه في منصبه، حيث تهدّد عملية “طوفان الأقصى” مستقبله السياسي، وأحدثت زلزالاً سياسياً داخل “إسرائيل”، مع بروز مطالبات برحيل “نتنياهو” عن الحكم، والتحقيق معه.

ومن المرجّح أن “إسرائيل” قد تكتفي بحرب بلا أهداف ينقل خلالها الاحتلال الحصار الخارجي من غلاف قطاع غزّة إلى الداخل عبر تنفيذ عمليات استطلاع وجمع معلومات وجسّ نبض بالقوة من خلال اختراقات محدودة ومناورات واسعة لتجنّب الخسائر، مع تنفيذ عمليات اغتيال لقيادات ما أمكن، كمرحلة أولى ثم أي هدف يلوح في الأفق لاحقاً، ذلك أن الحرب البرية في غزّة ليست نزهة، إنما فرصة ذهبية لرجال المقاومة المتعطّشين للالتحام المباشر.