دراساتصحيفة البعث

خيار التهجير ليس جديداً.. وتوسيع الجبهات حلمهم

بشار محي الدين المحمد

بلا شك، إن الوضع سواء في الأرض المحتلة أو في منطقة الشرق الأوسط بالغ الخطورة، ويحمل في طياته الكثير من التساؤلات حول نوايا “إسرائيل” بتهجير أهالي قطاع غزة، أو نيّتهم توسيع الحرب على مستوى المنطقة، لكن هذه الأسئلة يمكن إيجاد إجاباتها سواء في طيات التاريخ الإسرائيلي أو في قراءة مواقفهما من جهة، وردات فعل القوى الإقليمية في المنطقة والعالم من جهةٍ أخرى.

إن فكرة التهجير ليست وليدة تاريخ السابع من تشرين عام 2023، أو حتى من الممكن أن تجلب الملامة للمقاومة الفلسطينية، بل هي فكرة تعود لتاريخ نشوء الحركة الصهيونية، وإن تيودور هيرتزل في كتابه “الدولة اليهودية” ركز على عبارته الشهيرة “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب”، وبالتالي هو ادّعى كما غيره من اليهود أنهم شعوب مضطهدة تعرّضت للحرق والتنكيل والعنف “دون صدور أي سلوك مضرّ بالمجتمعات المحيطة بهم” في دول “الشتات”، وفي الوقت نفسه ادّعى أن فلسطين أرض خالية من السكان يمكن الاستيطان بها، ومن ثم روّج لفكرة استملاك أرضها وطرح فكرة إيجاد عمل للسكان الأصليين الذين سيتمّ البحث عن “مأوى” لهم وتهجيرهم لاحقاً بحسب مخطّطات مفكري “الدولة اليهودية”، متناسين أن كثافة سكان القدس المحتلة في حينه كانت تضاهي كثافة ولاية ضخمة مثل ولاية نيويورك الأمريكية، ومن هنا نلمس الدليل على أن فكرة التهجير القسري ماثلة عزّزتها أحداث أخرى متتابعة.

ففي عام 1947 صدر قرار التقسيم عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة وتدويل المناطق المقدسة، حيث لاحظنا سرعة انتهاء ما يُسمّى بـ”الانتداب البريطاني” وبدأ الوجود الصريح للعصابات اليهودية ونشاطها في تصفية الفلسطينيين وإخراجهم من أرضهم وقراهم دون وجه حق، والقيام بمذابح لن ينساها التاريخ الإنساني، عبر انتهاج تلك العصابات ما يُسمّى بخطة “داليت” لإفراغ المنطقة المخصّصة للدولة الفلسطينية من سكانها وفق مبدأ “أكبر قدر من الأرض لأقل عدد من السكان”. وفعلاً تمّ إخلاء نحو 500 قرية من سكانها الفلسطينيين وتهجيرهم، ولو عدنا إلى قرار التقسيم فقد كان ينصّ على منح اليهود 54% من الأرض الفلسطينية، لكن بعد “داليت” استولى اليهود على 78% من الأرض، واستمرت وتستمر عمليات القضم حتى باتت المفاوضات على منح الفلسطينيين 11% من الأرض، أو ربما لو حدثت المفاوضات سنكون أمام مساحة أقل، فالمستوطنات آخذة بالتوغل بشكل شهري دون توقف أو التفات لقرارات المجتمع الدولي حتى اللحظة.

إن فكرة التهجير ليست فكرة حديثة بل هي فكرة في انتظار الظرف المناسب، ولا تتعلق بالظرف الزماني، وهذا أمر خطير جداً، ومعناه أن العدوان الحالي على غزة لو قوبل بليونة من الجانب المصري أو الأردني لكانت شراسة “إسرائيل” قد زادت لتهجير وطرد أهل غزة، والذين هم طبعاً لن يتخلوا عن أرضهم حتى لو كان الخيار الآخر هو الشهادة، حيث اعتبر وزير خارجية الأردن أن “أي تهجير للشعب الفلسطيني هو إعلان حرب”، كما أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ووزير الخارجية على أن التهجير مشاركة في تصفية القضية الفلسطينية”. إذاً “إسرائيل” الآن أمام ظرف غير متاح للتهجير، وهذا يعني أنها ستنتهز أي فرص أخرى وتستغلها لتهجير الشعب الفلسطيني متى سنحت لها الفرصة ونجحت في خلق ذرائع مقنعة للمجتمع الدولي.

أما بالنسبة للحرب وتوسيعها فنلاحظ أن “إسرائيل” تعمل حتى اللحظة بأسلوب الفبركات والادعاءات والحرب النفسية، فهي تقول ما لا تفعل، وعلى لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو تمّ الادعاء بعدم السماح بإدخال المساعدات، ومن ثم بعدد عشر شاحنات، ومن ثم لاحظنا دخول قوافل للمساعدات، وبيان من البيت الأبيض يحضّ على ضرورة انتظام دخولها. كما أن نتنياهو استخدم تعبير “نحن نخوض الآن حرب الاستقلال الثانية” أي أنه قفز بالذاكرة من 7 تشرين الجاري نحو عام 1948، محاولاً نسيان حروب أعوام 1967 و1957 و1973، مع ميل نحو ربط “طوفان الأقصى” بما يُسمّى “الهولوكوست”، وهنا نقرأ مدى محاولات هذا الكيان الغاصب في التركيز على تاريخ اليهود “المتعرّض للاضطهاد” لاستدرار شفقة الغرب والرأي العام العالمي بهدف إشعارهم بالذنب وابتزازهم.

إن نتنياهو يحاول بشتى الوسائل إدخال أمريكا في الحرب وإدخال القوى الإقليمية كافة في جبهاتها، كما يأمل ازدياد الحوادث والهجمات في العالم كما حدث في مطار داغستان، حتى يتمتّع بحرف الضوء المسلط على غزة عن الشاشات والعقول لتحقيق أكبر قدر من التصفية والدمار فيها. فمن الآن يلتفت لما يجري على الجبهة الأوكرانية أو السودانية أو أي جبهات أخرى، كل العدسات مصوبة نحو وحشية “إسرائيل” في غزة، ولذلك فإن توسع الساحات يمثل أحد أهداف نتنياهو.

لكن مهما حدث فإن الاحتلال الإسرائيلي أثبت فشله عبر عدوانه مهما كان مدمراً وقاتلاً للأبرياء والأطفال، فكيان العدو تلقى مفاجأة في “طوفان الأقصى” لم يتلقاها منذ عام 1973، وكل مسؤوليه من نتنياهو وأركان جيش حربه سيقدّمون إلى المحاكمة بعد اختراق جدران فصلهم العنصرية من قبل أكثر من ألف مقاوم وفتح بوابات الجدار وأخذ الرهائن، والآن يحاولون التعويض أمام تلك المحاكمات عبر البحث عن انتصارات مزعومة لعلّها تنقذهم من السجن، على غرار ما حدث في لجنة “أجرونوت” عام 1973 التي تركت أثراً كبيراً في قيادات الكيان الفاشلة إثر الهزيمة.

كذلك فإن “طوفان الأقصى” أخرج القضية الفلسطينية من الخطابات الروتينية العربية والدولية وأعادها مجدداً إلى الساحة بقوة، كما أعاد تذكير الأجيال الشابة بهذه القضية الإنسانية وأشعرهم بمعاناة الشعب الفلسطيني بالصوت والصورة. وتجدّد شبه الإجماع الدولي على حلّ الدولتين، وضغط الشارع على الحكومات عبر العالم فأخرجها عن صمتها حيال القضية الفلسطينية، حيث تحول الرأي العام العالمي بما فيه الأوروبي من التضليل الإعلامي المدين للمقاومة إلى الدعوة لوقف العنف ضد الشعب الفلسطيني، ورأينا حتى أيلون ماسك يوافق على التريند الذي نشره مستخدمو منصاته “ستار لينك غزة” بأن يُبثّ إنترنت فضائي لأهالي غزة، كما أعادت “إسرائيل” فتح المياه، حتى الملك البريطاني والرئيس الفرنسي غيّرا رأيهما نحو المهادنة.

بالمختصر وقعت الأنظمة الغربية بين نار الحفاظ على صداقتهم التقليدية مع الكيان الإسرائيلي من جهة، ونار سخط الرأي العام ضدّ صمتهم تجاه الجرائم الصهيونية الفاشية بحق أهل غزة.