بنية النظام السياسي الأمريكي تعيش ارتباكاً وتخبطاً
ريا خوري
مرَّت الولايات المتحدة الأمريكية بتحولاتٍ بنيوية وسياسية سريعة على صعيد الحكم والقيادة لم تشهدها من قبل، وخاصة من منظور الانسحاب من المعاهدات والاتفاقات والالتزامات الدولية، والتراجع بشكلٍ لافت إلى الحدود الجغرافية السياسية، وإقامة جدران عازلة مع عدد من دول الجوار، وتخفيض مستوى الاهتمام بالعلاقات مع الحلفاء الاستراتيجيين، وتصعيد مظاهر الخلافات الحادّة مع الخصوم التقليديين.
هذا النهج استمرّ مع الرئيس جو بايدن، ولذلك فإن كثيراً من التساؤلات التي فرضت نفسها على الساحة الدولية أصبحت تُطرح عما إذا كانت تمثل ارتباكاً وتخبطاً في طبيعية تعامل الولايات المتحدة سياسياً مع دول العالم، أم أنَّها تعبِّر عن اتجاه أمريكي للتعامل مع القوى الفاعلة والقادرة على إثبات ذاتها على الساحة، بشكلٍ انتقائي، بحسب تفهم هذه القوى للأفضليات والرغائب الأمريكية وتقبُلها لتأثيراتها، أم أنها تعكس ازدواجية في معايير بين وطنية شعبوية تسعى إلى الانكفاء عن الآخر، واستعلاء، وبين السياسات التي ترقى إلى حدّ العنصرية المفرطة، في تقدير مواقف هذا الآخر، وتكييف سياساته وفقاً لمصالحها قافزين بوقاحة غير معهودة من حقوق الإنسان إلى حرية المصالح.
إذا كانت تلك التحولات قد أثبتت بوضوح تام أن الدوافع الأساسية التي أصبحت تحكم توجهات الإدارات الأمريكية المتعاقبة تتركز في تفضيلها إرضاء قاعدة كل مرشح الانتخابية، والحفاظ على تأييدها على أية اعتبارات أخرى حتى ولو كانت فوق الديمقراطية والعدالة والكرامة الإنسانية، فإن واقع الأمر يشير إلى أن هذه التحولات المتسارعة تطرح كثيراً من الإشكاليات حول الطبيعة المتغيّرة لدور الولايات المتحدة على الساحة العالمية، وتأثيراته السلبية على صيغة التوازن في النظام الدولي، وخاصة في ما تعكسه من عجز الإدارات الأمريكية المتعاقبة على بلورة رؤية إستراتيجية متماسكة لهذا النظام، فضلاً عن أنَّ هذا الدور يكشف عمق الأزمة التي أصبحت تطبع سلوك الولايات المتحدة من حيث امتلاكها للقدرة العسكرية وعجزها في الوقت نفسه على توجيهها في الاتجاه المطلوب. وذلك ليس فقط لإصرار القادة الأمريكيين على اتباع نهج العفوية والانطباعية في اتخاذ قراراتهم، وإنما أيضاً لحرصهم في الوقت نفسه على إظهار اتجاههم لعدم توريط القوات الأمريكية في أية نزاعات عسكرية تكون نتائجها وبالاً عليهم. وهو ما أدّى، بالتبعية، إلى فقد القدرة العسكرية الأمريكية مصداقيتها على الصعيد العالمي، وخاصة في ضوء تذبذب القرار وتصاعد احتمالات التراجع عنه بنفس سرعة اتخاذه، الأمر الذي يعطي بشكلٍ عام الانطباع بضعف قدرة الولايات المتحدة عن تحمّل دور القيادة العالمية منفردة. ومن ثم سيادة الاعتقاد بأن التفوق العسكري للولايات المتحدة لا يدخل بالضرورة في توازنات القوة الشاملة والكاملة مع القوى الدولية الأخرى الفاعلة والمؤثرة عالمياً طالما أنه لا يخدم القرار السياسي للدولة.
ولعلّ إدراك القوى الكبرى والدول الإقليمية هذا الوضع هو ما دفعها إلى التعامل مع هذه المرحلة باعتبارها سياسية انتقالية ومؤقتة، يمكن استنفادها لتحقيق المزيد من القوة العسكرية، وبناء النفوذ السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي، دون خوف من إثارة ردود أفعال أمريكية.
وعلى الرغم مما تفرضه هذه التحولات المهمّة على السياسة الأمريكية من أضرار إستراتيجية، إلا أنه من الواضح تماماً أنَّ هذه التحولات الكبيرة والمهمّة يمكن وضعها في إطار محاولة (ترامبية) و(بايدنية) غير مخطّطة، ناتجة عن فهم مغلوط، لأسباب تدهور القدرة الأمريكية بادّعاء أنَّها ترجع إلى حجم الأعباء الكبيرة والالتزامات التي تتحملها الولايات المتحدة للدفاع عن حلفائها وشركائها الدوليين، بما يستلزم مطالبتهم بالمشاركة في تكاليفها الباهظة وتسديد كافة ما يترتب عليها من فواتير متأخرة. وقد تسبّب هذا المنطق التجاري المبسط في خلافات واسعة بين أركان المؤسسة الأمريكية الحاكمة، والقائمين على بنية النظام السياسي الأمريكي، وأجهزة الإعلام الأمريكية، ورؤساء دول حليفة للولايات المتحدة في القارة الأوروبية. وذلك على الرغم من نجاح هذا المنطق في جذب تأييد الناخبين البسطاء من أنصار الرئيسين الأمريكيين المتعلقين بوعودهما وشعاراتهما باستعادة مقومات (أمريكا العظمى)، وهو الأمر الذي دلَّ بوضوحٍ تام على أنّ الإدارات الأمريكية المتعاقبة هي التي تخلط الأوراق، وتتجاهل الحقائق على الأرض.