شهداء الكلمة والبندقية
البعث الأسبوعية- أمينة عباس
كانوا شهداء الكلمة التي خطتها أرواحهم قبل أيديهم دفاعاً عن قضيتهم وحقهم في أراضيهم وحلم عودتهم إليها، ولأن كلماتهم كانت أقوى من الرصاصة التي يطلقها فدائي من فوهة بندقيته كان الحل بالنسبة لمن اعتاد على ارتكاب المجازر والمذابح اغتيالهم ظناً منه أن غياب أجسادهم سيطفئ نور كلماتهم، فقد أشهرت دولة العصابات الصهيونية سلاح الاغتيالات في وجه الجميع لتشمل مَن رفعوا راية المقاومة عبر الكلمات والأفكار والفنون، واعية بقدرة الفن الحقيقية على إذكاء روح المقاومة ومنح صوت لمَن لا صوت له.. وتاريخ النضال الفلسطيني زاخر بمثل تلك النماذج التي قاومت الاحتلال بالفكر قبل السلاح، فكانت أرواحهم ثمناً لما يؤمنون به.
غسان كنفاني
اهتز العالم العربي لاغتيال الأديب غسان كنفاني في بيروت عبر عبوة مفخخة زُرعت في سيارته، ليستشهد بصحبة ابنة أخته البالغة من العمر 17 عاماً، وكان كنفاني قد عُرف كواحد من أبرز أصوات الأدب المقاوم أديباً وصحفياً وتشكيلياً، وترك إنتاجاً أدبياً غزيراً تتصدره رواياته “عائد إلى حيفا-رجال في الشمس-أرض البرتقال الحزين” التي كانت صرخة عالية للمقاومة الفلسطينية وتُعدّ أولى الأعمال التي غاصت في قلب المخيمات وما زالت، معبّرة عن عمق الفجيعة.. وفي العام 2005 أي بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على اغتياله نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية بياناً صحفياً لـلمتحدث باسم رئيس وزراء الكيان الصهيوني إسحاق رابين يُقِر فيه بمسؤولية الموساد عن اغتيال غسان كنفاني ويربط بين عملية الاغتيال وإصدار رئيسة الوزراء في ذلك الوقت غولدا مائير أمراً بالانتقام يتضمن تنفيذ عمليات تصفية تجاه قائمة من الشخصيات الفلسطينية البارزة، من بينها كنفاني.
كمال ناصر
وبعد أقل من عام على استشهاد غسان كنفاني في نيسان من العام 1973 اغتيل الشاعر كمال ناصر في بيروت على أيدي المخابرات الإسرائيلية، ودُفن إلى جانب رفيقه كنفاني كما طلب في وصيته، وقد ولِدَ كمال ناصر عام 1924 في مدينة غزة ودرس في الجامعة الأميركية في بيروت، وأنهاها عام 1945 وعاد إلى فلسطين للعمل أستاذاً للأدب العربي، بالإضافة إلى دراسة الحقوق في معهد الحقوق الفلسطيني، وكان وعيه الوطني قد تفتَّح خلال أحداث الثورة العربية في فلسطين عام 1936 ومع صدور قرار تقسيم فلسطين أصدر جريدة سياسية بالتعاون مع مجموعة من زملائه أسموها “البعث” وفي العام 1952 ينضم ناصر إلى حزب البعث العربي، وفي العام 1969 انتُخب عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، كما تولى رئاسة دائرة الإعلام والتوجيه القومي فيها وأصبح الناطق الرسمي باسمها، كذلك تولى ناصر منصب رئاسة تحرير مجلة “فلسطين الثورة” وهي المجلة الرسمية الناطقة باسم منظمة التحرير الفلسطينية منذ العام 1972 وحتى استشهاده، ومن أبرز آثاره الشعرية مجموعة قصائد نُشرت سنة 1959 تحت عنوان “جراح تغنّي” وملحمة بعنوان “أنشودة الحق” غنّى فيها للوحدة العربية، ومجموعة شعرية بعنوان “أناشيد البعث” وديوان “أغنيات من باريس” كما كتب ثلاث مسرحيات هي: “التين-مصرع المتنبي-الصح والخطأ” وتشكّلت بعد استشهاده لجنة لتخليد تراثه نشرت أعماله النثرية والشعرية الكاملة سنة 1974وهو القائل: “لن نستريح والشعب دامٍ جريح والقيد في المعصم والحقد ملء الدم.. لن نستريح، لن نستريح..إنها قصة شعب ضللوه ورموه في متاهات السنين، فتحدى وصمد وتعرّى واتحد، رأى الظّلمَ يُدمي رُباه، فثارَ إلى مبتغاه، وكان شهيداً، وكلُّ شهيدٍ إله.
ناجي العلي
كان ناجي العلي أحد أبرز رسامي الكاريكاتير الفلسطينيين الذين جسّدوا القضية الفلسطينية وكانت رسوماتهم مصدر إزعاج للكيان الصهيوني، وقد اغتيل عام 1987 في لندن، وأثار اغتياله ضجة كبيرة في الوطن العربي وفي العالم أجمع، وبرغم أن الموساد نفى وقتذاك مسئوليته عن العملية فإن رئيسة وزراء إنكلترا أمرت بإغلاق مكتب الموساد في لندن، وقد عُرف كمبتكر للشخصية الشهيرة حنظلة التي تقف دائماً عاقدة ذراعيها خلف ظهرها مديراً ظهرها لكل من أداروا ظهورهم للقضية..وعن حنظلة يقول ناجي العلي:”ولِد حنظلة في العاشرة في عمره وسيظل دائماً في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين، وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء كما هو فقدان الوطن استثناء” وعندما سُئل العلي عن موعد رؤية وجه حنظلة أجاب: “عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته”.. وكان العلي قد ولِد في العام 1937 وهو ابن قرية الشجرة، وقد رحل مع أهله إلى مخيم عين الحلوة في لبنان عام 1948 ومن يومها لم يعرف سوى الترحال، ومن أشهر أقواله: “اللي بدو يكتب لفلسطين واللي بدو يرسم لفلسطين بدو يعرف حالو ميت”.
شعراء على الجبهات
لم يحمل الفلسطيني خلال رحلته النضالية في وجه العدو الصهيوني البندقية فقط، فقد آمن مبدعو فلسطين باتّحاد القلم والبندقية في مواجهة الاحتلال، فكانت كلماتهم سلاحاً لا يقل تأثيره عن الرصاصة التي كانت بندقيتهم تطلقها.
الشهيد
يُعدّ الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود 1913 ـ 1948 واحداً من ثلاثة شعراء صاغوا الذاكرة الجماعية الفلسطينية في فترة الاستعمار البريطاني، وقد تفرّد عن إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي بانخراطه الفعلي في ساحات النضال عبر مشاركته في ثورة 1936 وكشاعر كرّس جلّ أشعاره للقصيدة الحماسية الوطنية والقومية الملتزمة لدعم المقاومة والجهاد في مواجهة الانتداب الإنكليزي والجماعات اليهودية، وحين اشتعلت الثورة الفلسطينية سنة 1947 بسبب صدور قرار تقسيم فلسطين قرَّر الانضمام إلى جيش الإنقاذ، وخاض معارك عدة إلى أن استشهد عام 1948 في قرية الشجرة عن عمر قارب 35 عاماً بعد أن خلّف عدداً من القصائد كتبها بين عامي 1935و1948 جمعتها لجنة من الأدباء بعد وفاته بعشر سنوات، وكان قد نشر بعضها في المجلات الفلسطينية واللبنانية والسورية والمصرية، وصدر ديوانه في عمّان عام 1958وهو يضم سبعاً وعشرين قصيدة هي أهم ما كتبه في عمره القصير المليء بالكفاح، حيث صاغ آراءه الوطنية شعراً وعاشها حياة، وكان قد صور في قصيدته الشهيرة “الشهيد” الشهيد كما يتمنَاه: “سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى، ونفس الشـريف لها غـايتان ورود المنـايا ونيـلُ المنى”.
صوت الشعب
لُقّب نوح إبراهيم بصوت الشعب، وتختلف المصادر حول تاريخ ولادته ما بين العامين 1911-1913 في حيفا، وقد أصبح واحداً من أبرز الأصوات الشعرية خلال ثورة 1936 ورغم استشهاده عام 1938 قبل قيام دولة الاحتلال فإنه برز بوصفه واحداً من أهم شعراء المقاومة، وقد سجَّل عدداً من الأسطوانات التي حملت قصائده حين كان الفونوغراف من أهم وسائل نقل الأخبار، وقد حققت شهرة شعبية واسعة في فلسطين، فعمل الاحتلال الإنكليزي على مصادرتها ومنعها، لكن كلماته ظلت حية، ولعلّ أشهرها “دبرها يا مستر دل” وهي القصيدة التي تخاطب الضابط الإنكليزي المكلف بإخماد الثورة الفلسطينية لإتاحة الفرصة أمام العصابات الصهيونية للتوسع والاستيطان، وقد استشهد نوح عام 1938 قرب قرية طمرة وهو في طريقه للاشتراك في اجتماع قيادة الثورة في منطقة الجليل الغربي، حيث كانت القوات الإنكليزية برفقة فرق الهاغاناه في ذلك الوقت تتعمد مهاجمة معاقل الثوار لتصفية المقاومة الفلسطينية، وبسبب تضييق الاحتلال البريطاني على قصائده لم يتسنَّ للباحثين جمع أعماله وتدوين سيرته، ويُعَدُّ كتاب الباحث الفلسطيني خالد عوض “نوح إبراهيم الشاعر الشعبي لثورة 1936-1939” أبرز المصادر البحثية التي تتناول حياته وشعره.
إني اخترتك يا وطني
اشتهر علي فودة عربياً بقصيدته المغناة “إني اخترتك ياوطني” من ديوانه “عواء الذئب” ويقول فيها: “إني اخترتك يا وطني حبًّا وطواعية، إني اخترتك يا وطني سرًّا وعلانية، إني اخترتك يا وطني، فليتنكر لي زمني، ما دمت ستذكرني يا وطني الرائع” ولُقّب بالشاعر الشهيد بطل معركة حصار بيروت التي شهدت ازدهار نشاطه الأدبي، حيث نشر عدداً كبيراً من المجموعات الشعرية وروايتين، إضافة إلى إصداره لمجلة “الرصيف” التي اعتاد أن يوزعها بنفسه على الفدائيين والمقاتلين على الجبهات، واستشهد في عين المريسة في بيروت نتيجة استهداف مباشر من بارجة صهيونية وهو يحمل رشاشه على كتفه والجرائد في يده الأخرى وهو القائل: “فلسطيني كحدّ السيف كالمنجل، أصولُ، أجولُ، لا أسأل، ومثل الشمس قد أرحل وأصرخُ في الوجودِ أنا فلسطيني أقولُ أقولُ لا أخجل” وهو القائل أيضاً: “إذا كان الجندي المصري سليمان خاطر الذي قتل الصهاينة في سيناء مجنوناً فأنا أدعو كل العرب للجنون العام” وقد وُلد علي فودة عام 1946 في حيفا، وسرعان ما هُجِّرت عائلتُه وهو لا يزال بعمر العامين إلى مخيم نور شمس في طولكرم، وفي عمر السابعة توفيت والدته، ثم لجأت عائلته إلى الأردن حيث تخرّج في دار المعلمين عام 1966 ومن الأردن انتقل إلى بغداد، ثم إلى بيروت.