مجلة البعث الأسبوعية

“أغان وأسرار” من جنوب أفريقيا.. “غيلدر”: “الأدب والفنون وسائط مهمّة لنقل تجارب الشّعوب في الكفاح

البعث الأسبوعية- نجوى صليبه

للوهلة الأولى، يوحي العنوان العام لكتاب سفير جمهورية جنوب إفريقيا في دمشق “باري غيلدر” بأنّ حديثاً فنّياً توثيقياً وربّما رومانسياً سيدور في صفحاته، لكن العنوان الفرعي الذي يليه “جنوب أفريقيا من التّحرر إلى الحكم” كفيل بأن ينسف الفكرة الأولى تماماً، وإن كان للأغاني دور في هذا النّضال، يقول “غيلدر” (ص 28): “في مساء يوم السّبت، قبل أن تبدأ الحفلة الموسيقية، اقتربت من عدد قليل من الجنوب الإفريقي في الحانة، روني كاسريلز، وباولو جوردان، ووالي سيروتي، وناشدتهم أن يحضروا عزفي وغنائي في الحفلة الموسيقية.. بدوا مشككين، لكنّهم وعدوني بالحضور.. الآن على المنصة والضّوء يضرب في عيني.. لا أستطيع معرفة إن كانوا حاضرين أم أنّهم ما يزالون في الحانة يتجادلون حول الثّورة والفنّ!!.. أتوقّف عن النّقر على الأوتار ومداعبة المفرد منها.. إنّه هدوء ما قبل العاصفة.. أنظر مباشرة ً إلى الجمهور، ولا أستطيع رؤيته.. أحاول التّواصل.. هذا الجمهور جديد بالنّسبة إليّ.. إنّه أوّل أداء علنيّ لي مذ غادرت جنوب إفريقيا، هناك في الوطن كنت شاعر الاتّحاد الوطني لطلبة جنوب إفريقيا، وكنت أقوم بتأليف الأغاني وغناء أناشيد النّضال في المؤتمرات و ورشات العمل وفي التّجمعات الخاصّة.. هناك كنت أعرف جمهوري، وكنّا نتشارك بمعجم كامل من مفردات النّضال، كما كنا نتشارك بالتّجارب والمشاعر، وكنت أستطيع ارتجال كلمات الأغاني معتمداً على القضايا والأحداث المباشرة التي كوّنت عالمنا النّضالي.. أيضاً، كان رفاقي يعرفون الأغاني ويشاركون فيها ويطلبون أغانيهم المفضّلة، ويقترحون الموضوعات التي سأغنّي عنها، لكنّ هذا الجمهور لم أكن أعرفه ولم يكونوا يعرفونني.. كنت مجهولاً.. كنت شابّاً أبيض من جنوب إفريقيا ظهر على عتبة بابهم وبيده غيتار”.

يقدّم “غيلدر” في كتابه الذي يقع في 478صفحةً من القطع الكبير وصفاً تفصيلياً لقراره الانضمام إلى الجناح المسلّح للمؤتمر الوطني الإفريقي المسمّى “رمح الأمّة” ـ تنظيم أسسه “نيلسون مانديلا” في عام 1961 بهدف محاربة حكومة الفصل العنصري ـ، والمشاعر الحميمية والصّراعات في حياة المنفى في أنغولا وبوتسوانا وإنكلترا وروسيا، كما يتناول الانتقال من دولة الفصل العنصري إلى دولة جنوب إفريقيا الدّيمقراطية الجديدة، يقول: “الأدب والفنون هي وسائط مهمّة لنقل تجارب الشّعوب في الكفاح، وربّما تكون بطريقة ما أكثر فاعلية من وسائط ومجالات أخرى، وأعتقد أنّ القاسم المشترك بين ما يحدث في فلسطين وما حدث في جنوب إفريقيا هو الإمبريالية والاستعمار، فبلادنا رزحت تحت الاستعمار البريطاني الذي أنشأ نظام الفصل العنصري، حيث استثني السّود من كثير من الحقوق، هناك تشابه من حيث البلاد التي دعمت التّمييز العنصري وحينها والتي وقفت ضدّ سورية اليوم وفلسطين، هناك تشابه من النّاحية التّاريخية والتّحديات التي ما نزال نواجهها حتّى اليوم”.

تشابه دفع الهيئة العامّة السّورية للكتاب إلى إصداره نسخة مترجمة عن الكتاب، يقول الدّكتور نايف الياسين مدير عام الهيئة: “هذا التّشابه هو مبرر ترجمة الكتاب ونشره في الهيئة، نظراً إلى التّقاطعات والتّشابه بين نضال الشّعب الفلسطيني والنّضال ضد التّمييز العنصري في إفريقيا وغيرها، فالكتاب يروي سيرة نضال شعب جنوب إفريقيا ضدّ نظام التّمييز العنصري، ويجمع ما بين خبرة المناضل المقاتل والفنّان، وهو سيرة ذاتية لشخص لعب دوراً مهماً كمقاتل قضى نحو 15 سنة في المنفى في معسكرات تدريب حزب المؤتمر، وبعدها ذهب إلى موسكو للتّدرب على العمل الاستخباراتي ومن بعد انتصار الحزب استلم مواقع مهمة في الحزب وفي إدارة إفريقيا في حقبة ما بعد الانتصار على نظام الفصل”.

أمّا سوسن بدر المترجمة التي عدّت ما استطاعت لهذه المهمّة الصّعبة فتقول: “أسئلة كثيرة تدافعت في ذهني عندما بدأت بترجمة هذا الكتاب، وأعود معكم بالذّاكرة إلى بداية قصّتي مع ترجمة هذا العمل، عندما كنت مديرة الإعلام الخارجي في التّلفزيون، كنت أعدّ وأقدّم برنامج “سفارات وثقافات”، وبالطّبع كنت أجري بحثاً عن السّفير وعن البلد قبل كلّ حلقة، وبعد الانتهاء من تصوير الحلقة مع السّفير “باري غيلدر” نقلت إليه ما كتبه أحد الصّحفيين بأنّه قارن بين الطّوابير الطّويلة التي تنتظر أمام المراكز الطّبية في جنوب إفريقيا لتلّقي اللقاح ضدّ كورونا وبين الطّوابير التي وقفت أمام صناديق الاقتراع في أوّل انتخابات ديمقراطية في عام 1994، وكانت صورة المقارنة ملغومة بالطّبع.. هل وصلت جنوب إفريقيا إلى الدّيمقراطية؟ أمّا أنا فانتظرت تعليق “غيلدر”، وصدقاً هامت عيناه وكأنّ الأفكار والذّكريات سحبتاه في دوّامة داخل نفق طويل وهو يبحث عن النّذور في طرفه الآخر، ثمّ أجاب إجابةً دبلوماسيةً وتركني إلى مزيد من الفضول”، مضيفةً: “لقد سألني مرّة: “كتاب صعب؟”، فأجبته: “بلى إنّه كذلك”.. لقد حاولت قدر الإمكان أن أجعله سهلاً على القارئ، فتعلّمت لفظ الأسماء الإفريقية، وعملت على تركيب الاختصارات المكتوبة بالحروف الأولى فقط وترجمتها بالشّكل المفصّل، كما ترجمت الأشعار والأغاني بأمانة وسلاسة قدر الإمكان، وقطعت الجمل الطّويلة، وترجمت الجمل المكتوبة بلغة الزولو أو الرّوسية أو غيرهما مع الإبقاء على لفظها بتلك اللغات كي لا أفسد إرداة الكاتب في إظهار أنّ الحوار يدور بلغة أخرى، وذللت صعوبة ترجمة الكلمات التي تحمل أكثر من معنى والمصطلحات والأمثال الشّعبية، وآثرت الإبقاء على صيغة المضارع التّاريخي، وإن كان الحديث في زمن محدد من الماضي، بعد أن فهمت أنّه يستخدم في سرد الأحداث الماضية بطريقةٍ تجعلنا نشعر بوقعها الحاضر.. أرجو أن أكون وفّقت في تذليل كلّ هذه الصّعوبات كي يستمتع القارئ العربي بزخم الذّكريات والأغاني التي سخّرها “غيلدر” وهو يجول بنا في رحلته نحو ترسيخ الدّيمقراطية، على الرّغم ممّا يدور في أذهاننا من أفكار في أثناء هذه الرّحلة، تبقى الأغاني مستمرة في إلهاب الكثير من الثّورات من أجل الحقوق والحريات وبناء المجتمعات، وفي أحداث أخرى تبوح بالكثير من الأسرار والآلام، وفي قصتنا لم ينقطع “باري” عن البوح والغناء من أجل جنوب إفريقيا ومن أجل عالم أفضل”.

وفي قراءته التي قدّمها في النّدوة التي أقامتها الهيئة العامّة السّورية للكتاب برعاية وزارة الثّقافة في مكتبة الأسد حول الكتاب، قال الدّكتور باسل مسالمة: “لقد تخلّى “غيلدر” عن حياة الطّبقة المتوسطة البيضاء ذات الامتيازات في جنوب إفريقيا، وانتقل إلى المنفى وانضمّ إلى الكفاح المسلّح في أنغولا ضد حكومة الفصل العنصري، ودخل الخنادق مع السّود وغير السّود والنّساء، في هذا الكتاب يكشف عن أنّ “رمح الأمّة” لم يكن مجرّد “جيش الرّجل الأسود”، ولم يكن “جيش الرّجال”، بل كان مكاناً تحاول فيه شعوب مختلفة محاربة حكومة الفصل العنصري، ويكشف أيضاً أنّ معسكراته لم تكن مجرّد ثكنات للتّدريب، بل كانت ساحات ثقافيّة وفكريّة وروحيّة أيضاً، كما يظهر في النّصف الثّاني من الكتاب الصّعوبات التي واجهها حزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” وهو الحزب القائد لحكومة جنوب إفريقيا في بناء حكومة ومجتمع جديدين، ولم يخف الكاتب أنّه كان على الحزب قبول أولئك الذين كانوا في الخدمة القديمة والذين اختاروا البقاء لبناء الخدمات الجديدة، ويوضّح أنّه لا يزال ثمّة “شكّ” عميق وعدم ثقة بين المعنيين السّابقين في نظام الفصل العنصري وأولئك الذين جرى تعيينهم في إطار “المؤتمر الوطني الإفريقي”، كما يذكّرنا بأنّ الصّحافة في جنوب أفريقيا كانت تريد من النّاس أن يؤمنوا بأنّ هذا الحزب صار مهزلةً وأنّه استلم زمام السّلطة من حكومة سياسية لم تتغير هيكلياً عن دولة الفصل العنصري”، مبيّناً: “يعدّ هذا الكتاب مهمّاً لكلّ من يريد أن يعرف معلومات عن أعمال الحزب أثناء المنفى والصّراعات التي تعيشها جنوب أفريقا الآن، وعلى حدّ تعبير “غيلدر” نفسه: “لقد حاول هذا الكتاب أن يخبركم ببساطة عن مدى صعوبة محاولة قلب نظام الفصل العنصري، ويلفت الكتاب انتباهنا إلى أسلوبه القصصي وطريقته السّينمائية، إذ يطرح أسئلة من خلال عدسة الكاميرا لهذا العضو السّابق رفيع المستوى في الحزب، وتستكشف مذكرات “غيلدر” الصّريحة والمقنعة الحقائق الشّخصية والسّياسة والنّفسية والتّاريخية التي أدّت إلى ولادة جنوب إفريقيا جديدة، ولا سيّما الظّروف التي غالباً ما يجري تجاهلها، وهي مذكّرات غنية بالقصص والمعلومات والأحلام والمآسي التي اشترك فيها كثير من محاربي الحزب، يسردها الكاتب بأسلوب يكاد لا يخلو من روح الدّعابة، وتالياً يساعدنا على فهم أفضل للحياة في المخيمات والسّجون التي عاشها جيل مستاء من أنّ هذا الحزب لم يعد المنظمة التي نشأوا فيها، هؤلاء المناضلون مثل “باري غيلدر” لا يريدون إظهار أنفسهم بأنّهم مستاؤون حتّى حين يعترفون بأنّ “البلاد تواجه عدداً من المشكلات لم يجد لها حزب المؤتمر حلولاً”، مضيفاً: “إنّ الرّؤى التي يقدّمها الكاتب عن حالة ما بعد الفصل العنصري وتطوّر حزب المؤتمر الوطني الإفريقي منذ عام 1994 تعدّ ذات قيمة كبيرة إذ توفّر مساهمةً مهمّةً في فهمنا للفترة المضطربة مع تصاعد الصّراع بين “مبيكي” و”زوما”.. إنّ التّأمّلات المقدّمة في هذا الكتاب محفّزة ومستفزّة وتحثّ القارئ على التّفكير بعمقٍ أكبر ليس في حاضر جنوب أفريقيا ومستقبلها فحسب، بل في العالم من حولنا أيضاً”.

بدوره، يقول الدّكتور جابر سلمان: “الكتاب يسلّط الضّوء على عقود ثلاثة من الزّمن في مسيرة المؤلّف وفي سيرته الذّاتية بأسلوب قصصي سينمائي قريب من السّرد الرّوائي المطعّم بلغة أدبية ميّسرة بعيدة عن التّكلّف أو التّعقيد.. من أغاني وأناشيد “غيلدر” السّاخرة ما كتبه ذات مرّة إلى زوجة جنديّ وهميّ في جيش الفصل العنصري قتل في الحرب ضدّ حركات التّحرير الوطني لجنوب أفريقيا:

التّاريخ حافلة مزدحمة

تسافر بأقصى سرعة

ولكنّ “جوني” المسكين عبر الطّريق قبل أن تتحوّل الأضواء إلى اللون الأخضر والسّيد “غيلدر” لم يكن سوى أحد ركّاب تلك السّفينة قد بدأ رحلته واقفاً في الممر، متمسّكاً بالأحزمة من أجل الحياة، بينما كانت الحافلة تسير على الطّريق السّريع، وأخيراً وجد مقعداً في آخر الحافلة ليتقدّم بعد ذلك بالتّدريج إلى الأمام حيث مقدمة الحافلة، لكي يستطيع تقديم النّصيحة للسّائق وتحذيره من المطبّات الخطرة والعواقب المترتّبة على ذلك”.

في الحقيقة، كلّ ما قيل هو جزء بسيط جدّاً ممّا قد يقال ويكتب حول المعلومات والقصص والحكايا التي وضعها “باري غيلدر” في متناول القارئ السّوري تحديداً، يقول في بداية الكتاب وتحت عنوان “ملاحظات المؤلّف”: “إن تناولت هذا الكتاب متوقّعاً الاستمتاع بالاعترافات الحقيقية لسيّد ساخطٍ من أسياد التّجسس، فأعده إلى مكانه.. إن فتحت هذا الكتاب على أمل الاستمتاع بأسرار أحد الكوادر المُحبطة من أوهام حركة تحرير جنوب أفريقيا، فأغلقه واتركه.. إن اشتريت هذا الكتاب على أمل أن تجد فيه سيرةً ذاتيةً لرجلٍ أبيض يناضل في جيش الرّجال السّود، ويحكي قصّته من الأجداد حتّى الممات، فأغلقه وغلّفه وقدّمه لصديق كهدية.. ليس المؤلّف بضابط استخبارات ساخط يكشف الأسرار التي كان مؤتمناً عليها انتقاماً لأخطاء أو سوء معاملة ارتُكبت بحقّه، في الواقع يتمتّع المؤلّف بحكم طبيعته بذاكرة تحتفظ بالحقائق والتّجارب المفيدة لفهم الرّحلة التي قام بها هو وأبناء وطنه.. وليس المؤلّف ذاك الذي يترك السّفينة ويتخلّى عن مسؤولياته، ويسعى الآن من خلال كتابه هذا إلى رفع صوته عالياً شارحاً أسباب تصرّفه المتهوّر الذي قام به خوفاً من البحار المضطربة، فهو يؤمن بأنّ حركة المؤتمر الوطني الإفريقي كانت السّفينة الوحيدة الصّالحة للإبحار بما فيه الكفاية من أجل إخراج جنوب إفريقيا من إعصار الفصل العنصري إلى مياه الدّيمقراطية الأكثر هدوءاً، بل إلى المياه التي لم ترسم على الخرائط بعد”.

وفي نهاية ملاحظاته التي كتبها في شهر أيار عام 2012 يقول “غيلدر”: “ما كان في هذا الكتاب من نقاط ضعف إنّما يرجع إلى المؤلّف، وما كان فيه من نقاط قوّة إنّما يعود إلى إسهامات من شاركوا فيه”، ونراه يختم كتابه بالقول: “هذه الحكاية هي مجرّد محاولة لإخباركم بمدى صعوبة محاولة قلب نظام الفصل العنصري”.

أمّا نحن فسنختم قولنا بالأغنية التي أدّاها “غيلدر” ورفاقه بحفل عيد ميلاد “نيلسون مانديلا” السّبعين في ملعب ويمبلي ـ لندن في 11 حزيران 1988 والتي تقول:

سنقاتل من أجل الحقّ في أن نكون أحراراً

سنبني مجتمعنا الخاصّ

سنغنّي

سنغنّي

سنغنّي

أغنيتنا الخاصّة

أماندلا أوثا “قوّتنا لنا”

“غنّ أغنيتنا الخاصّة”