مجلة البعث الأسبوعية

الروح الفلسطينية لا تنكسر.. ستنهض غزة من تحت الركام مثل طائر الفينيق

 البعث الأسبوعية- عناية ناصر

يدل القصف الجوي  المستمر على غزة على الهمجية الإسرائيلية وعجز الفاشية عن فهم الروح الإنسانية البطولية لمقاومة القمع، على عكس التاريخ الذي أثبت أن قصف المدنيين من بلدة غيرنيكا الباسكية من قبل الطائرات الألمانية والإيطالية عام 1937 إلى المدن السوفيتية في الحرب العالمية الثانية، ومن تدمير أمريكا لفيتنام والعراق وأفغانستان إلى الإبادة الجماعية في غزة اليوم، يعزز تصميم الإنسان على المقاومة.

في عام 1948، عندما ذبح الفاشيون الصهاينة 240 رجلاً وامرأة وطفلاً في دير ياسين بالقرب من القدس قبل شهر من ظهور كيان إسرائيل الصهيوني، أعلن وزير الزراعة أهارون زيسلنغ في رعب: “لقد تصرفنا مثل النازيين.. كياني كله يرتجف”.

ووصف الفيزيائي ألبرت أينشتاين، والخبير في شؤون النازية، مهندس تلك المذبحة، مناحيم بيغن، بالفاشي. وأصبح فيما بعد رئيس وزراء “إسرائيل”. إنها حقيقة لا يمكن إنكارها أن حكومة كيان المحتل التي تمطر وابل جحيم صواريخها على الناس المحتشدين في غزة هي حكومة فاشية مدفوعة بالأسطورة العنصرية القائلة بأنهم “الشعب المختار”، وأن فلسطين هي أرضهم التي “وهبها الله لهم”.

“إسرائيل” مستعمرة استيطانية تبنت ممارسات الفصل العنصري، وقد مول الغرب جرائمها وأضفى الشرعية عليها منذ ولادتها غير الشرعية في نكبة عام 1948.  وقد استخدمت الولايات المتحدة حق النقض “الفيتو” وقوضت قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي منذ ذلك الوقت وحتى احتلال غزة والضفة الغربية عام 1967 . واليوم، يتواطأ الغرب مع “إسرائيل” في تطهيرها العرقي للفلسطينيين، وجرائم الحرب، والعدوان على الدول المجاورة. وتقدم الولايات المتحدة حالياً 3.8 مليار دولار سنوياً لقوات الكيان الإسرائيلي.  كما أعلن بايدن الآن عن مبلغ إضافي قدره 14 مليار دولار لدعم قوات الكيان ودون تقديم بالمقابل سنتاً واحداً من المساعدات الإنسانية للفلسطينيين، كما سلمت المزيد من القنابل والصواريخ للهجوم “الدفاعي” على غزة.

إن الدعم الغربي لـ “إسرائيل” مدفوع بالعنصرية، إلا أن هناك أيضاً دوافع شخصية أكثر تلعب دوراً في بعض الحالات، حيث تمتلك عائلة سوناك الثرية استثمارات هائلة في “إسرائيل”، كما يفعل كثيرون آخرون في العربة الصهيونية، بما في ذلك العديد من الشركات الغربية.

تأتي عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول  في سياق ما يقرب من ثمانية عقود من القمع الوحشي، والذي يعود تاريخه إلى زمن تجريد أجدادهم من ممتلكاتهم . فالبلدات والقرى التي قامت المقاومة بمهاجمتها والتجمعات الإسرائيلية التي داهمتها بُنيت على أراضٍ سُرقت من عائلاتهم في الأربعينيات خلال النكبة التي ألقت بهم في مأزق اللاجئين . والواقع أن ثلثي سكان غزة هم من اللاجئين، والعديد منهم من نفس تلك القرى المدمرة.

 النفاق الغربي

كانت تعليقات وسائل الإعلام الغربية مليئة بـ “الأخبار المزيفة”،  حيث تبين أن العديد من المستوطنين ماتوا بسبب إطلاق النار عليهم من قبل جنود الكيان، الذين يعملون بموجب “بروتوكول هانيبال” الإسرائيلي، بمعنى جندي قتيل خير من جندي أسير. وعندما ادعى الغرب ووسائل إعلامه الخاضعة أن هذا الهجوم كان “غير مبرر”، لم تتم الإشارة إلى أكثر من 75 عاماً من التطهير العرقي والإبادة الجماعية المتزايدة والعقاب الجماعي، والحصار المفروض على غزة منذ 16 عاماً، و الهجمات الخمس المميتة على غزة منذ عام 2008، بما في ذلك القتل بدم بارد لـ 220 متظاهراً، من بينهم 42 طفلًا، وإصابة 36,000 في احتجاجات مسيرة العودة الكبرى السلمية في 2018-2019 . وكان المستوطنون من “سديروت” القريبة والتي بنيت على أرض قرية نجد الفلسطينية، التي تم تطهيرها عرقياً في أيار 1948، يأكلون الفشار ويهللون للقناصة الإسرائيليين وهم يسحقون الناس العزل.

يتذكر كثيرون في جميع أنحاء العالم يهود “غيتو وارسو” الذين تمردوا وأسلحتهم في أيديهم ضد السجون النازية، وكانوا مستعدين للموت واقفين على أقدامهم بدلاً من انتظار الموت بشكل سلبي مثل الأغنام.  وعلى الرغم من إعلان أن مواطني جنوب أفريقيا إرهابيون عندما حملوا السلاح ضد الفصل العنصري، إلا أن الكفاح المسلح كان معترفاً به على نطاق واسع باعتباره مشروعاً تماماً.

إن المقاومة المسلحة ضد الاحتلال العسكري والطغيان معترف بها كحق عالمي في القانون الدولي، وكحق أخلاقي في نظرية الحرب العادلة. والمقاومة الفلسطينية هي حركة تحرر وطني، منخرطة في النضال ضد الاستعمار، لكن تسعى “إسرائي”ل والولايات المتحدة والغرب الأوسع إلى نزع الشرعية عن المقاومة من خلال الخلط بينها وبين “داعش”، لكن هذه مقارنة زائفة تماماً، فالمقاومة على عكس “داعش” خرجت من قلب شعب محتل ومضطهد ولها مشروع واضح لإنهاء الاحتلال الاستعماري.

نهاية لعبة إسرائيل

عندما سعى مؤسس الصهيونية السياسية في القرن التاسع عشر، ثيودور هيرتزل، إلى الحصول على الدعم من القوى الأوروبية، وعد بأن “الدولة اليهودية” في فلسطين سوف تبني جداراً حديدياً “ضد الهمجية الآسيوية”. لقد كان يعرض تأمين المصالح الإمبريالية الغربية ضد مصالح  العرب والشرق، من خلال مستوطنة استعمارية أوروبية في ما كان لقرون عديدة أرضاً مزدهرة تسمى فلسطين. إلى جانب العنصرية، يفسر هذا الكثير من الدعم الإعلامي المالي والعسكري والدبلوماسي والخنوع لـ “إسرائيل”، وهو امتداد للإمبريالية الغربية.  وكان النفط والغاز، بما في ذلك الاكتشافات الأخيرة لاحتياطيات هائلة قبالة ساحل البحر الأبيض المتوسط من غزة إلى لبنان، سبباً في زيادة استعداد الغرب للتضحية بالشعب الفلسطيني في دعمه لمستعمرة استيطانية موالية لها مصالح اقتصادية مشتركة.

وبينما تمطر “إسرائيل” الموت والدمار على غزة، يتعين علينا أن نتساءل ما هي نهايتها؟ للإجابة على هذا السؤال، لا بد من العودة إلى أصول الصهيونية، ورغبتها في مجال اقتصادي كبير على حساب الشعب الفلسطيني الذي زرع حقوله، وطوّر الزراعة والتجارة والمدن، وخلق ثقافة مزدهرة منذ زمن المملكة الكنعانية.  وأوضح هيرتزل أنه “بمجرد وصولنا إلى السلطة، سننقل العرب المفلسين عبر الحدود”. كان هذا هو الأساس للتطهير العرقي للسكان الأصليين الذي بدأه ديفيد بن غوريون في عام 1948 عندما أُجبر 750 ألف شخص، ثلاثة أرباع السكان الفلسطينيين في ذلك الوقت، والذين مع ذلك كان عددهم يفوق عدد اليهود بشكل كبير، على النفي كلاجئين.

ويبدو من الواضح أن هدف “إسرائيل” من تسوية غزة بالأرض وإرهاب السكان هو إجبار الناجين على الخروج إلى مخيمات اللاجئين في صحراء سيناء، إلى جانب بالطبع  إرضاء الجشع في حقول النفط والغاز البحرية في غزة.

منذ اتفاقات أوسلو عام 1993 وسراب الحل، شهدت التوسعية الصهيونية ارتفاع عدد المستوطنين من 250 ألفاً في ذلك الوقت إلى 700 ألف اليوم، وهذا يجعل حل الدولتين أمراً مستحيلاً، وقد أدى تدنيس المسجد الأقصى المقدس، مع وصول هجمات الغوغاء على المصلين وسكان القدس الشرقية إلى ذروتها هذا العام، إلى تفاقم الوضع المتدهور. إن المذابح التي شنها المستوطنون غير الشرعيين وهم يصرخون “اقتلوا العرب” وألحقوا الدمار ببلدة حوارة قد أظهرت الطابع الفاشي للمستوطنين الإسرائيليين .ومع تزايد المقاومة الشعبية قبل 7 تشرين الأول، تم نقل العديد من كتائب الاحتلال الإسرائيلي من غزة إلى الضفة الغربية، وتضاعف عدد الفلسطينيين المحتجزين كرهائن من قبل “إسرائيل” إلى أكثر من 6000، بما في ذلك 200 امرأة وطفل لا تتجاوز أعمارهم اثني عشر عاماً، كما يوجد نحو 1600 شخص محتجزون دون تهمة أو محاكمة.

إلى أين غزة .. إلى أين “إسرائيل”؟!!

إن الهجوم في المناطق الحضرية، حيث تُسبب الأنقاض والمباني المنهارة مشاكل للدبابات هو أصعب وأخطر العمليات العسكرية . لقد أظهرت المقاومة الفلسطينية  براعة غير عادية في تكتيكات حرب الشوارع، كما يتضح ذلك من الدروس التي استفادتها في 7 تشرين الأول، ومن الهجمات الإسرائيلية السابقة على غزة.  ولا تستطيع قوات الكيان الإسرائيلي تحمل مواجهة المزيد من الكوارث. إضافة إلى أن الإسرائيليين لن يغفروا بسهولة للنخبة السياسية والمؤسسة العسكرية التي انكشفت أوجه قصورها بكل وقاحة بالفعل، ويرجع ذلك جزئياً إلى الغطرسة العنصرية، وإلى أنها أصبحت قوة شرطة ممجدة تتعامل مع المراهقين وتحمي المستوطنين.

إن قوة احتلال تابعة لكيان فاسد ومتهالك، على الرغم من كل تفاخرها، لا تستطيع أن تنتج معنويات عالية مستدامة، وخاصة عندما تواجه خصماً ذو دوافع عالية، ويزدري الموت. لقد أدركت المقاومة الفلسطينية أن الغزو البري سيأتي في أعقاب عملية مثل “طوفان الأقصى”، وكان من شأنها أن تستعد بعناية أكبر بكثير من الأنفاق المفخخة المتوقعة، فمن يدري ما هي المفاجآت التي يخبئها الغزاة؟

ولعل أول هذه المفاجآت هو أن صبر العائلات الإسرائيلية التي أسرتها المقاومة الفلسطينية بدأ ينفد بشدة إزاء إحجام حكومة نتنياهو عن التفاوض بشأن تبادل الأسرى، إضافة إلى أن إطلاق سراح بعض الأسرى الذين يحملون الجنسية الغربية، من خلال التدخل الخارجي، يشكل ضغوطاً هائلة على نتنياهو وأمثاله . وهنا يتبادر إلى الأذهان عام 2011  حيث تم تبادل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط بأكثر من 1000 أسير فلسطيني. وفي هذا السياق تملك المقاومة ورقة قوية جداً.

علاوة على ذلك، فقد قضت الأحداث الجارية على فكرة إمكانية جلب السلطة الفلسطينية لحكم قطاع غزة، وليس هذا القلق الوحيد للأهداف الغربية، إذ تشعر كل من الولايات المتحدة و”إسرائيل” بالقلق إزاء الانتكاسة المحتملة لاتفاقات ” أبراهام” وتطبيع “إسرائيل” للعلاقات مع جيرانها، وهو الأمر الذي كان نتنياهو يتباهى به مؤخراً في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول الماضي، فقد حفزت المقاومة الفلسطينية غير المسبوقة الجماهير العربية كما انعكس ذلك في الاحتجاجات الضخمة في الشرق الأوسط وخارجه خلال الأسابيع القليلة الماضية، ومن المحتم أن تخلق معضلة لتلك الأنظمة.

إن آخر ما تريده الولايات المتحدة هو الدخول في مستنقع في الشرق الأوسط، خاصة في ظل الانتفاضات الحاشدة ضد الأنظمة العميلة للولايات المتحدة. كما أن الولايات المتحدة لا تستطيع ببساطة أن تتحمل تكاليف هذا في الوقت الذي تخسر فيه حربها بالوكالة في أوكرانيا، ويتوقف الهجوم المضاد في كييف.

ونظراً لهذه العوامل فقد تجد “إسرائيل” أن هناك حدوداً للدعم الذي قد تتلقاه من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية إذا أصبح الوضع أكثر اضطراباً. علاوة على ذلك، فبينما قد تتحول المباني إلى أنقاض، ويقتل الآلاف، فقد أظهر الفلسطينيون قدراً غير عادي من المرونة والصمود لعقود عديدة. ورغم ذلك يجب القيام بكل ما هو ممكن لمنع استمرار المجازر، فمن خلال قوة التضامن الدولي يمكن تمكين وتعزيز دور الأمم المتحدة، وممارسة الضغوط على الولايات المتحدة وأوروبا الغربية لدعم وقف فوري لإطلاق النار . والأهم من ذلك كله هو قوة الشعب، والعمل المباشر في الشوارع في جميع أنحاء العالم كما لم يسبق له مثيل من قبل، إلى جانب تكثيف حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات لعزل “إسرائي”ل الصهيونية تماماً.   ولا يعتقد الكيان أن القصف العشوائي للمدنيين سيكسر عزيمة المقاومين وحاضنتهم الشعبية، بل على العكس سيعمق العزم ويثير المقاومة، فالروح الفلسطينية لا تنكسر ولا تهزم  ومثل طائر الفينيق، فإن غزة المتحدية والبطولية سوف تنهض من تحت الركام..