الدور الأمريكي الجديد في العالم والمنطقة العربية
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد
دائماً ما يدور الحديث في الآونة الأخيرة عن دور الولايات المتحدة في العالم عموماً وفي المنطقة العربية أو الشرق الأوسط خصوصاً بعد الشكل الجديد للتغير المتسارع للواقع الجيوسياسي العالمي.
فقد سبق أن سوقت الولايات المتحدة نفسها على أنها “ملاك” وغيرها “الشرّ” وكان الرئيس الأمريكي رونالد ريغن أول من استخدم هذا التعبير صراحةً ضدّ الاتحاد السوفييتي، ورأينا بعد ذلك وخاصةً منذ العقدين الأخيرين من القرن الماضي أن الولايات المتحدة كانت تمثل “إمبراطورية الشرّ في العالم” حرفياً وفعلياً، حيث أشعلت مجموعة كبيرة من الحروب والنزاعات، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي أظهرت على الساحة الدولية فكرة المعايير المزدوجة أو “سياسة الكيل بمكيالين” لتكون سمتها الأولى الملازمة لها.
ويثور التساؤل هنا عن سبب انتهاج الإدارة الأمريكية لسياسة الشرّ بصورة متكررة سواءً بشكل مباشر أو عبر أدواتها المرتهنة، وسواءً كانت دول أم أحلاف أم حتى حركات داخلية، والإجابة تكمن في رغبتها في تحقيق مصالحها الإقتصادية والعسكرية والأمنية وفقاً لتعاريفها الخاصة بها وبما يتماشى مع وجهات نظر مفكريها، وخاصةً أنها تمثل مجتمع جديد لا امتداد حضارياً له، مؤلف من جماعات بشرية مهاجرة على مدار 300 سنة، وهذا بخلاف القارات الأخرى التي لها حضارات وقيم مشتركة وإرث تاريخي عميق. وفي المجمل فإن ما ينطبق على الولايات المتحدة ينطبق على كل المجتمعات الإستيطانية مثل كندا ونيوزيلندا وأسترالياً والكيان الإسرائيلي، مع سمة مميزة تكمن في أنها كانت الأسوأ والأعنف عبر التاريخ، فالعنف والإبادة كانت سمة أساسية للمجتمعات المهاجرة وخاصةً ضدّ السكان الأصليين للأراضي التي استوطنوا بها. بل هناك مثل أمريكي يقول: “العنف مثل فطيرة التفاح”، في كناية عن انتشار العنف في مجتمعهم كما تنتشر أكثر أصناف الحلويات شعبيةً لديهم، وفي الوقت نفسه نسمع منهم ترهات وادعاءات بعيد “الشكر” أو الرغبة في الاعتذار لشعب الهنود الحمر الذين تمت إبادتهم من المهاجرين الجدد وصولاً إلى عزلهم عن المجتمع الجديد حتى اليوم، ولدرجة انعكس هذا العنف ضدّ المجتمع نفسه، إذ يمكن لأي أمريكي دخول متجر للسلاح وشراء مسدس أو رشاش أو ربما مدفع، مع تكرار وتزايد لأحداث العنف بأنواعه ضدّ الجميع بما فيهم المدارس أو حتى مرتادو أماكن العبادة.
أما السمة السلبية الأخرى لهذا المجتمع فتكمن في التوسّع، إذ بدأ المجتمع الأمريكي بالحضور إلى الساحل الشرقي ليمتد نحو غربي القارة وصولاً إلى تكساس التي هي جزء من المكسيك، وليس صحيحاً أن أمريكا حاولت عزل نفسها عن مشكلات العالم بعد ذلك، بل هي تنأى بنفسها عن مشكلات القارة الأوروبية فقط في وقت تغوص في أي صراعات عبر العالم، واستخدمت كل الطرق لتسويق نفسها عبر العالم من خلال استخدام غطاء التبشير أو نشر الجامعات الأمريكية في العالم وكل الطرق غير المكلفة لها للتغلغل في الشعوب والسيطرة على مقدراتها، كما بدأت بالتنافس المحموم بعد الحرب العالمية الثانية مع الاتحاد السوفييتي وشنّ الحرب الباردة، إضافةً لشنها أنشطة هدامة داخل الدول، مثل دورها داخل حلف بغداد الذي بالأساس أنشأته بريطانيا، ودورها في إنشاء وتنمية الكيان الصهيوني، ولعبت دور “الإمبراطورية” ولكن بشكل مغاير عن الشكل التقليدي للإمبراطوريات القديمة؛ فهي لا تحتل الدول لكنها تنشر نحو 800 قاعدة عسكرية لجنودها في نحو 100 دولة في العالم، وتعيش في عالم سيطرت على مؤسساته الدولية الحقوقية والمالية وحتى الصحية.
لكن بعد عام 2011 تغير المشهد للولايات المتحدة وكان أول بزوغ لهذا التغيير في الفيتو الروسي الصيني ضدّ مشاريع الإدارة الأمريكية لإدانة الدولة السورية في مجلس الأمن نصرةً لقطعان الإرهاب، وبدأ بعد ذلك ظهور قوى متعددة تنافس الهيمنة والتسلط الأمريكي على الشعوب وتسحب بساط هيمنتها بقوة.
وتكرر مشهد زعزعة “عرش الإمبرطورية” إبان الحرب الأوكرانية التي أشعلتها أمريكا للانتصار على روسيا وإنهاكها لكنها وحتى اللحظة وعلى مدار أكثر من سنة ونصف لم تحقق الهدف المتوخى من تلك الحرب الحمقاء، باستثناء أنها قضت على محاولات التمرّد الأوروبي على سطوتها، وأعادت لـ”ناتو” قوته ودعمه أوروبياً بعد أن كان يحتضر على سرير الإنعاش، في وقت حافظت روسيا على عزيمتها وعناصر قوتها وحشدها لأكبر قدر من التحالفات والصداقات من حولها بعد فشل محاولات عزلها أمريكياً وغربياً.
وعلى صعيد المنطقة العربية شهدنا تبايناً في الميل نحو المحور الشرقي والغربي، ولم تشهد هذه المنطقة حرباً باردة بل حروباً ساخنة، وحتى روسيا دخلت في المصطلح ذاته، لأن الحرب الباردة من أهم عناصرها عدم اللجوء إلى القوة، لكننا نرى بأم العين وجود صراعات عسكرية في معظم مناطق العالم، أما علاقاتها مع الصين فما زال بالإمكان تسميتها بالحرب الباردة من خلال خليط من المصالح المشتركة الأمريكية الصينية، وتناقضات سياسية متعددة ومتكررة يتخللها لقاءات زعماء وسياسيين من الطرفين حتى اللحظة دون الوقوع في المحظور.
لقد عبّرت أحداث عدّة عن المزاج العربي تجاه العلاقات مع أمريكا ففي عام 2022 شهدنا قمة سعودية أمريكية بعد الحرب في أوكرانيا بعدّة أشهر، قال خلالها الرئيس الأمريكي جو بايدن: “لقد تركت أمريكا المنطقة، وحدث فراغ حاولت دول أخرى أن تملؤه ولن نسمح بذلك”. ولكن لاحظنا بعد عدّة أشهر زيارة تاريخية للرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السعودية جرى خلالها بحث العديد من الملفات الثنائية على مجمل الصعد.
ولا ننسى أن أغلبية الدول العربية رفضت مشروع القرار الأمريكي بتجميد عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للولايات المتحدة، كما رفضت مشروع فرض عقوبات إقتصادية على موسكو، وهذا معناه أن العرب ليسوا في موقف عداوة مع روسيا أو تماهٍ مع أمريكا بل أصبحوا ورغم الضغوط الأمريكية يحددون ما يحقق مصالح بلادهم في التوجه شرقاً أو غرباً.
أما السؤال الأهم فيكمن في الشكل الأحدث لموقع أمريكا في المنطقة، وهذا الشكل سترسمه نهاية الحرب على غزة، والتي تمثل الآن شبه قنبلة موقوتة وأخطر من مشكلة الملف النووي الإيراني الذي لا يحوي في طياته أي صراعات عسكرية حتى اللحظة، وحتى رئيس وزراء العدو المتطرّف بنيامين نتنياهو قال: “شكل الشرق الأوسط سيختلف”، والأصح ما قاله السيد حسن نصر الله قائد المقاومة الوطنية اللبنانية: “ما قبل الحرب على غزة ليس كما بعدها”، ومع كل الاحتمالات فإن العلاقات بين دول المنطقة جددت مشاعر الكره تجاه الحلف الصهيو أمريكي، وأوقفت عجلة التطبيع وغيرت النظرة نهائياً له، وسترينا الأيام القادمة انتصاراً ساحقاً لمحور المقاومة على هذا الحلف المراهن على الكيان المنقسم المهترئ، والمعتمد لسياسات الترغيب والترهيب وإشعال الفتن بأدوات القتل.