“طوفان الأقصى”.. معركة الوعي
طلال ياسر الزعبي
لم يكن أحد ليتخيّل أن القضية الفلسطينية ستعود إلى الواجهة كما كانت بُعيد النكبة عام 1948 تماماً، فالزلزال الذي أحدثته عملية “طوفان الأقصى” على مستوى القضية الفلسطينية برمّتها لم يتصوّره أشدّ المتفائلين حول إحياء هذه القضية على هذا النحو العالمي.
هذه العملية دمّرت كل محاولات الصهيونية العالمية كيّ الوعي واختزال الذاكرة حول ما يحدث في فلسطين منذ أكثر من 75 عاماً من الاحتلال والتشريد والحصار والجريمة المنظمة التي مارستها العصابات الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني منذ الانتداب البريطاني الذي شكّل مظلّة للصهيونية في فلسطين حتى يومنا هذا، فالممارسات ذاتها التي أقدمت عليها العصابات الصهيونية لقتل الفلسطينيين وتشريدهم وتهجيرهم عن أرضهم، تعود حكومة نتنياهو لتقوم بها اليوم، وهي تقوم بها دائماً، في الأراضي المحتلة، ولكن الاختلاف اليوم يظهر واضحاً في وجود فضاء إعلامي واسع مهما حاول القائمون عليه في الغرب حجب الحقيقة إلا إنهم يصطدمون في النهاية بالمشاهد المفزعة والمروّعة القادمة من غزة، التي تؤكّد أن ما تمارسه الصهيونية العالمية في فلسطين المحتلة أشدّ وحشية ممّا مارسته الفاشية والنازية في العالم من فظائع.
الصورة تظهر أشدّ وضوحاً الآن، فهناك شعب أعزل محاصر منذ عشرات السنين، وتقوم سلطات الاحتلال بالتضييق عليه من كل الجوانب، من خلال ممارسة أبشع جرائم التمييز العنصري بحقه، وخنقه ومنعه من الوصول إلى أبسط مقوّمات الحياة بغية تهجيره، هذا الشعب استطاع إجبار العالم أجمع على النظر إلى قضيّته والعودة إلى جذورها الأصلية المتمثّلة بالدور الغربي الفظيع في التآمر عليه وإحلال شعب آخر جيء به من كل أصقاع الأرض محلّه بالقوة، في أبشع جريمة إنسانية عرفها التاريخ.
هنا في غزة، ظهر العالم كلّه بلباسه الحقيقي، المتواطئ المتآمر، والذليل الخانع، والإرهابي المجرم، والمزوّر المنافق، جميع أولئك ظهروا عُراة أمام شعب جبار واجه آلة الموت الصهيونية بحبّه للحياة، وبعلمه أن نضاله المستمر لا بدّ أن يثمر حريّة وحياة جديدتين له، وهذا بالضبط هو الأمر الذي أجبر جميع أحرار العالم على إعادة النظر بأحقية هذه القضية وبضرورة نصرتها، فاستشاط جميع هؤلاء غضباً وخرجوا إلى الشوارع في العواصم والمدن العالمية لنصرة هذا الشعب المظلوم في الحصول على حقّه والاعتراف به، الأمر الذي دفع الحكومات الغربية إلى إظهار الاهتمام بالجانب الإنساني الذي يتعارض تماماً مع ما تقدّمه من دعم كامل للكيان الصهيوني في جريمته.
والأهم من كل ذلك، أن هذا الجيل الجديد الذي ظنّت الصهيونية العالمية أنه نسي أو تناسى قضيّته المركزية، عاد مجدّداً ليتسلّح بثقافة المقاومة، هذه الثقافة التي يحاول العدو الصهيوني جاهداً أن يمحوها من خلال إصراره على قتل الأطفال حتى لا ينشأ جيل جديد على الانتقام لما شاهده من فظائع في صغره، وبالتالي فإن صورة الحمل الوديع التي حاول الصهاينة تسويقها لهذا الكيان في المنطقة والعالم لإقناعهم بضرورة التطبيع معه، لم تتهشّم فقط، وإنما تم نسفها من أساسها، لأن شعوب المنطقة ليست في معزل عمّا يجري في غزة، بل هي الآن أشدّ تماساً مع المشاهد الفظيعة والمروّعة للنساء والأطفال.
ومن هنا، فإن مراهنة العدو على كيّ الوعي في المنطقة فشلت، وكما تمكّنت المقاومة في لبنان من إحداث شرخ كبير في مفهوم الردع الصهيوني برمّته، عام 2006، وأجبرته على إعادة حساباته، تمكّنت المقاومة في غزة الآن من الانتصار في معركة الوعي، والمعركة الآن لم تعُد معركة لترسيم حدود على أرض فلسطين، إنها معركة الوجود الكامل والعودة الكاملة والإرادة الكاملة، ليس فقط للشعب الفلسطيني الأبي وإنما لشعوب المنطقة برمّتها، لأن هذا العدو يحلم بالسيطرة على المنطقة كلّها، وليس فقط على فلسطين.