ألمانيا تجدّد انحيازها لـ”إسرائيل”.. دعم مطلق وغير مشروط
د. معن منيف سليمان
تجدّد ألمانيا، على وقع الإبادة الجماعية في غزّة، دعمها المطلق وغير المشروط لـ”إسرائيل”، إذ يستمر قادتها، على اختلاف توجهاتهم، في دعم فكرة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، في موازاة قمع الاحتجاجات المؤيّدة لفلسطين، وحظر أيّ نشاط معادٍ لـ”إسرائيل”، من خلال ربطه بحركة “المقاومة”. ولهذا فإن ألمانيا أبدت استعداداً تامّاً لتنحية الاعتبارات الإنسانية فأمدّت “إسرائيل” مباشرة بالأسلحة والذخائر وجميع أشكال الدعم العسكري والسياسي.
تحاول ألمانيا إظهار الندم لكيان الاحتلال الإسرائيلي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية التي شهدت ما يدّعي اليهود تنفيذ “محرقة الهولوكوست” ضدّهم. ومنذ الشهر الماضي، تمّ رفع معدّلات الأسلحة التي ترسلها ألمانيا إلى “إسرائيل”، أي منذ إطلاق الاحتلال عدوانه على قطاع غزّة، على وقع عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها حركات المقاومة في غزّة.
وقال مسؤول حكومي ألماني إن برلين صدّرت معدّات عسكرية وأسلحة بأكثر من 300 مليون يورو إلى “إسرائيل” هذا العام، بزيادة 10 أضعاف عن 2022، مضيفاً أن 185 من أصل 218 ترخيصاً لتصدير الأسلحة منحت هذا العام لـ”إسرائيل”، وتغطي التراخيص مجموعة من الأسلحة العسكرية، ليست كلها هجومية، بل منها مكونات أنظمة الدفاع الجوي، بالإضافة إلى إرسال ذخائر فتّاكة تبلغ قيمتها نحو 20 مليون يورو.
وفي هذا الوقت، عادت ألمانيا تؤكّد دعمها الكامل لـ”إسرائيل”، بوضعها مسيّرتين حربيّتين كانتا تحت تصرفها، وكلاهما من طراز “هيرون تي بي”، اللتين تصنعهما “إسرائيل”، بهدف استخدامها من جديد في الهجوم على قطاع غزّة. بالإضافة إلى ترتيب نقل جرحى العمليات العسكرية الإسرائيلية للعلاج في مستشفيات ألمانية.
وما زال الغموض يحيط ببعض تفاصيل صفقات الأسلحة، حتى إن ترتيبات الترخيص الغامضة تعني أنه من الصعب تحديد ما تمّ نقله بالضبط، وربما يكون بعضها جاهزاً للاستخدام على الأرض في غزّة.
ولا تفتأ الحكومة الألمانيّة تَذكُر “حقَّ إسرائيل المشروع في الدفاع عن النفس المكفول لها في القانون الدوليّ”، ردّاً على هجوم المقاومة فجر السابع من شهر تشرين الأول الماضي. قالها المستشار الألماني أولاف شولتز في خطاب ألقاه أمام البرلمان الألماني، منذ أسابيع: “نقول إن أمن إسرائيل هو سبب الدولة الألمانية”. فألمانيا ـ كجلّ الدول الغربيّة ـ اختارت منذ الوهلة الأولى الاصطفافَ غير المشروط إلى جنب “إسرائيل”، ودعمها المطلق “في حربها على الإرهاب”، مهما كانت الفاتورة الإنسانيَّة الباهظة التي سيدفعها المدنيّون الفلسطينيون.
من اللافت للنظر أن يصاحب انحياز الحكومة الألمانيّة شبه إجماع سياسيّ داخليّ منقطع النّظير، تبنَّت فيه جلّ الأحزاب الموقف الرسمي بحذافيره، ما عدا حزب اليسار الذي شكّل في هذا الصدد ذاك الاستثناء الذي يؤكّد القاعدة. وتجلّى هذا التوافق السياسي في إخماد كلّ الأصوات الداعمة لفلسطين، تارة عبر محاولة حظر المظاهرات المندّدة بالحرب جملة وتفصيلاً، ومصادرة منظميها حقّهم الدستوري في التجمّع السلمي، والتعبير عن الرأي. وتارة أخرى عبر وضع كل ناقد لسياسة “إسرائيل” تحت طائلة معاداة السامية دون فرق أو تمييز.
وبلغت ذروة الدعوات الرامية إلى شيطنة الاصطفاف إلى الجانب الفلسطيني، في محاولة نائبة رئيس حزب الاتحاد الديمقراطيّ المسيحيّ، كارين بْرِين، تجريمَ هتاف “فلسطين حرّة” الذي كثيراً ما تصدح به حناجر مؤيدي فلسطين في المظاهرات، إذ صرّحت في لقاء تلفزيوني بأنّ هتاف “فلسطين حرة ليس هتافاً بريئاً، وإنما صيحة حرب لعصابة إرهابيّة”.
وقد كان من ضحايا هذا التوجّس الهستيري الكاتبة عدنية شبلي التي تمّ تأجيل تكريمها بجائزة “ليبيراتوربرايز” لأجلٍ غير مسمّى لمجرد أنّها ذات أصول فلسطينية. فيما وصلت الحملات ضدّ لاعب كرة القدم المغربي نصير مزراوي حدّ التهديد باستبعاده من البلاد.
وفي هذا السياق، صرّحت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر باستعدادها التام لطرد وترحيل أنصار حركة “المقاومة” من ألمانيا لحماية اليهود، وصرّحت بأن حكومة بلادها عازمة على طرد وترحيل أنصار حركة “المقاومة” من ألمانيا، حماية لليهود.
إلى جانب الدعم العسكري والسياسي لـ”إسرائيل”، سرعان ما تحرّكت ألمانيا بعد ساعات من “طوفان الأقصى” للتضييق الشديد على الفلسطينيين إنسانياً ودبلوماسياً، فقد أعلنت عن تعليق المساعدات للأراضي الفلسطينية.
فيما أظهر، قائد القوات الجوية الألمانية الفريق، إنغوغيرهارتز، تضامنه ودعمه لـ”إسرائيل” بالسفر إلى تل أبيب، والتبرّع بالدم بصحبة فريقه من القوات الألمانية، والتقى بنظيره الإسرائيلي اللواء تومر بار.
وبدورهم، اندفع قادة “حزب الخضر”، إلى إظهار الولاء للإسرائيليين، فيما تولّت، أنالينا بيربوك، التي تدير وزارة الخارجية الألمانية، لعب دور صقر عنيد مؤيّد لـ”إسرائيل” في أروقة الاتحاد الأوروبي، وتمكّنت من فرض موقف برلين في البيان الختامي لقمة زعماء التكتُّل، نهاية الشهر الماضي، في بروكسل، في شأن الأحداث في غزّة التي لم ترقَ حتى إلى مستوى دعوة خجولة إلى وقف إطلاق النار، واكتفت بالتوسّل للجيش الإسرائيلي لقبول ما سمّته بـ”هُدَن إنسانية”، يُسمح خلالها بدخول بعض المساعدات العاجلة للسكان المحاصَرين.
وتوحّد أعضاء البرلمان الألماني جميعهم من دون استثناء، في التعهّد بمنح “إسرائيل” “التضامن الكامل” و”التأييد الحاسم”، من دون أيّة إشارة إلى مسألة حقوق الإنسان، أو مقتضيات القانون الدولي، كما جرت عليه عادة البرلمانيين الألمان عند التهجّم على الأنظمة التي يتّهمونها بـ”الديكتاتورية”. لا بل إن وزير العدل الألماني، ماركو بوشمان، صرّح علناً أن “مَن يحتفل بإرهاب (المقاومة) ـ أي هجوم السابع من تشرين الأول ـ ليس منّا”.
وليست وسائل الإعلام الألمانية الرئيسية أقلّ انحيازاً لـ”إسرائيل”، إذ أيّدت القنوات التلفزيونية والصحف الكبرى حصار غزّة، داعمةً الجرائم التي تُرتكب في حقّ المدنيين بحجّة “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. حتى مع توالي الأنباء عن مزيد من المذابح المرتكبة في غزّة، واستهداف الأبراج السكنية والمستشفيات والمدارس والكنائس، فإن مقالات المثقّفين والإعلاميين الألمان في الصحف والمواقع الإخبارية الألمانية لم تخرج ـ من دون استثناء تقريباً ـ عن معزوفة التسويغ للإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل” ضدّ المدنيين في غزّة.
أمّا في الأمم المتحدة، فكانت ألمانيا واحدة من الدول التي عارضت دعوة الأمين العام، أنطونيو غوتيريش، الأخيرة، إلى وقف إطلاق النار في غزّة لأسباب إنسانية.
ويشغل اللوبي اليهودي دوراً في تشويه ما يحدث في فلسطين بالوقت الحالي، وإظهار “إسرائيل” “دولة مظلومة تتعرّض للإرهاب”، فيما تستخدم الحكومة الألمانية تلك الشعارات الإسرائيلية لتسويغ سياستها المنحازة لـ”إسرائيل” أمام الرأي العام. ولهذا باتت ألمانيا ملتزمة بشكل فردي مع “إسرائيل” كذلك بشكل جماعي، فهي جزء لا يتجزّأ مع التحالف الأورو أمريكي.
إنَّ اصطفاف ألمانيا غير المشروط إلى جنب “إسرائيل” دون مراعاة حقوق الفلسطينيين، وتجاهل خروقاتها التي وثقتها عدسات الكاميرات لن يؤدّي إلى تحقيق المبتغى المنشود. فحتى لو تمكّنت “إسرائيل” من اجتثاث المقاومة إلى الأبد، كما قال وزير خارجيتها، فإنّ هذا لن يضعَ حداً للصراع العربيّ ـ الإسرائيليّ، ما دامت “إسرائيل” ماضيةً في انتهاك حرمة المسجد الأقصى، وحصار غزّة، وبناء المستوطنات، ونسف كلّ أمل في بناء دولة فلسطينيّة مستقلّة.