التّأريخ للقدس.. طروحات وإسهامات أكاديمية جامعية في دحضها
نجوى صليبه
لم تخطط جامعة دمشق ـ كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ لأن تكون النّدوة العلمية التي تقيمها، بمبادرة من “مؤسسة القدس الدّولية” وبمشاركة من اتّحادات المؤرّخين العرب والحرفيين والكتّاب العرب، بعنوان “الإسهامات الأكاديمية الجامعية في التّأريخ للقدس” مزامنةً للعدوان الصّهيوني على غزّة، يقول الدّكتور عدنان مسلم ـ عميد كليّة الآداب ـ: “نتمّنى تعزيز هكذا مبادرات ولقاءات مع مؤسسة القدس وغيرها من المنظّمات السّياسية والاجتماعية الأخرى، لأنّها إضافة معرفية تعزّز الرّأسمال المعرفي والثّقافي في الكلية”.
ويؤكّد الدّكتور خلف المفتاح ـ رئيس مؤسسة القدس الدّولية ـ أنّ جيل الشّباب هو الجيل الذي نعوّل عليه جميعاً في بناء مستقبل أفضل لأمّتنا وشعبنا، ويضيف: الجامعات هي رافعة العلم والمعرفة وهي مصنع المستقبل، لأنّها تبني العقول، ولأنّ الرّأسمال البشري يتحوصل في العقل البشري.. لقد كان لجامعة دمشق عبر التّاريخ إسهامات كبيرة في هذا المجال، وتخرّج منها قادة وسياسيون ومناضلون رسموا ملامح ليس فقط سورية وإنّما مستقبل الأمة، وخلال سنوات ماضية كانت الجامعات السّورية عصيّة على محاولات الإرهابيين ضربها وضرب العقل الاجتماعي السّوري من خلال فرط العقد الجامعي، لكنّهم فشلوا، وهذا يأتي ضمن المخطط الصّهيوني، وما يجري في غزّة اليوم هو تأكيد لهذه السّياسة، وما يحدث فضيحة أخلاقية لمن كان يتغنّى بالثّورة الفرنسية.. من المهم أن يعي الشّباب ما يجري في غزّة والمنطقة بالكامل، وأن يعي أنّ هناك تهديد لوجودنا وهويتنا ونحول دون نجاح المشروع الصّهيوني الذي نشأ علمياً قبل أن ينشأ سياسياً من خلال إحداث أول جامعة قبل قيام الكيان الصّهيوني بعشرين عاماً، وفي العام ذاته أسسوا معهداً موجوداً حتّى الآن، كما نؤكّد مسألة التّركيز على أنّ مراكز الأبحاث والدّراسات في كيان العدو تبلغ الخمسين مركزاً بحثياً”.
بدوره، يبيّن الدّكتور فاروق أسليم ـ اتّحاد الكتّاب العرب ـ: “شاءت الصّدفة أن يكون اختيار جامعة دمشق ـ كلية الآداب، لموضوع التّأريخ للقدس في الدّراسات الأكاديمية موافقاً للعمل العظيم الذي يقوم به أبطال غزّة، مؤكّدين بذلك حيوية الأمّة، وتماسك رجالها وشبابها من أجل أن تكون القدس هي هدفنا والتّحرير مآل شعبنا، وما تقوم به جامعة دمشق، اليوم، هو في سياق المسؤولية الإنسانية والوطنية والقومية للدّفاع عن حقوقنا”.
محاور متنوّعة ومهمّة يحتاج كلّ منها ومن دون مبالغة إلى مئات المحاضرات، ولتكن البداية مع الدّكتور عبد الله السّليمان ـ جامعة دمشق ـ الذي تحدّث عن دور أساتذة التّاريخ القديم في جامعة دمشق في توثيق تاريخ القدس القديم، يقول: “أكثر من عمل على تاريخ القدس القديم هو الأستاذ الدّكتور محمود عبد الحميد أحمد، ويعود ذلك إلى إخلاصه لعمله وإلى أنّ النّصوص المصرية القديمة التي كان متخصصاً بها كانت توثّق لتاريخ فلسطين بحكم أنّها أقرب إلى مصر، والشّخصية الثّانية في سورية والتي عملت جاهدةً على تاريخ فلسطين هي الدّكتور فاروق إسماعيل بحكم أنّه يمتلك النّصّ الأكادي ورسائل تل العمارنة التي توثّق بعين منصفة ودقيقة لحالة بلاد الشّام في النّصف الثّاني من الألف الثّاني قبل الميلاد، وأمّا الشّخصية الثّالثة في عالمنا العربي والسّوري فهي الدّكتور فاروق شعث، مضيفاً: الصّراع على الماضي من أجل كسب الحاضر فكرة مهمّة جدّاً، وتعمل عليها الدّوائر السّياسة الغربية، فقد استطاع اليهود أن يقنعوا الآخرين أنّهم وحدهم من يمتلك مفاتيح التّاريخ القديم، مستغلّين جهلنا وتقصيرنا في هذا الجانب، وطوال سنوات كنّا نعتقد أنّ الدنيا بدأت في الـ 23 من تشرين الأوّل من عام 4004 قبل الميلاد وفق ما جاء في سفر التّكوين، لكن الاكتشافات الأثرية فنّدت كلّ هذه الادّعاءات حتّى في فلسطين ذاتها، والمشكلة ليست في سرقة التّراث المادّي الفلسطيني بل في التّراث اللامادي، وهناك أمور مهمّة سرقها منها أورشليم، إذ أقنع اليهود ـ خلال سنوات ـ أنّهم هم من أطلقوا الاسم على القدس”.
ويتوسّع الدّكتور بهجت قبيسي ـ مؤسسة القدس الدّولية ـ، في هذا الموضوع، ويوضّح: “اسم أورشليم الذي ادّعوه في نصوص اللعن المصرية في القرن التّاسع عشر قبل الميلاد، وبعد قراءة الاسم بهدوء وجدنا أنّ الاسم ليس “أورشليم”، بل هو “أُوشام”، والشّام نفسها ممومة مثل التّنوين، وقالوا أيضاً إنّ هناك نقشاً كنعانياً معروفاً باسم الملك “أحيرام” أي “أخي رام”، وإنّ هذا الأخير أرسل خشباً إلى “سليمان” لبناء الهيكل في أورشليم، وقدّروا تاريخ الحدث في القرن العاشر قبل الميلاد أي نحو 960 قبل الميلاد حسب ادّعاء اليهود، وهذا كلام توراتي بحت، وفي مراجعة قاموس الكتاب المقدّس مادة “أحيرام” نجد أنّ هذه الأخبار توراتية وليست أثرية إنّما ذهب البعض وبعد اكتشاف تابوت “أحيرام الكنعاني” من “جبيل”، بعد هذا الاكتشاف، ربطوا وقالوا إنّ “أحيرام الكنعاني الجبيلي” أرسل خشباً لبناء الهيكل ولم يرد ذلك بتاتاً، واسم القدس اسم عربي كنعاني قديم وإذا كان نشوء القدس في القرن السّابع الميلادي، كما تشير “مارغريت شتاينر” وأنّ هيرودوت وثّقها في القرن الخامس، فهذا لا يقف دليلاً على انتفاء تسميتها بالقدس منذ تأسيسها، مضيفاً: “الفكر الإيديولوجي الحاصل الآن يحتاج إلى فكر إيديولوجي سليم لدحضه وهذا الأمر أقوى من السّلاح المدفعي والصّاروخي لأنّه أصبح في ضمير كثير من الغربيين الآن، وعلى هامش الحديث لم يعرف اليهود منذ فجر التّاريخ شعوباً حوتهم كما حواهم العرب العدنانيون في ظلّ الرّسالة المحمدية فأكرموهم وقد وصلوا إلى أحسن المناصب”.
ويعرض الدّكتور إبراهيم خلايلي ـ مؤسسة القدس الدّولية ـ لبعض إشكاليات تأريخ مدينة القدس من خلال ما أرّخته الآثارية الهولندية “مارغريت شتاينر” للقدس يقول: “ترى “شتاينر” أنّه لا وجود لمدينة القدس قبل نهاية القرن الثّامن أو السّابع قبل الميلاد أثرياً، وذلك حسب تنقيبات ودراسات أجرتها في القدس المحتلة منشورة في عام 1988، وفي كتاب لها بعنوان “القدس في العصر الحديدي”، وردّاً على ما سبق، نتساءل هل كان الاتّصال الرّافدي البابلي بفلسطين ومدينة القدس تحديداً مرهوناً بوجود الفرس الأخمينيين فيها في فترة متأخّرة؟ ثمّ لماذا رُبط ظهور اسم “أورشليم” بظهور ما سمّاه المؤرّخ سهيل زكّار اسم “يهود”؟ وهل لهذا الظّهور مستندات أثرية وكتابية في مدينة القدس؟ وما الهدف من نفي وجود القدس في المرحلة الكنعانية الأولى ثمّ ربطها باليهود بعد القرن السّابع قبل اليملاد وتحديداً الرابع؟.. هذا الرّبط لا أدلّة عليه ولا يخدم قضية القدس وتأريخها كما أنّه من غير المقبول إلغاء اعتراف التّوراة بكنعانية القدس في الحقبة الكنعانية القديمة وتأكيد صلة مفترضة لهذه المدينة باليهود بعد تأسيسها المتأخّر المزعوم، لذا فتأريخ تأسيس القدس في القرن السّابع قبل الميلاد من قبل “شتاينر” هو تأريخ غير علمي ومن شأنه إلغاء علاقة القدس بعشرات المدن الكنعانية داخل فلسطين وخارجها”.
ويعرّج خلايلي على الحفريات الأثرية التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي في المواقع الأثرية الفلسطينية، ويؤكّد أنّه لا يمكن الوثوق بها أبداً، يقول: “هذه الحفريات تلغي حقباً تاريخية ومراحل أساسية من تلك المواقع ومنها القدس، بما يتناسب وسياسته في احتلال التّاريخ بعد احتلال الأرض، وذلك بتزوير نتائج الحفريات وإخفاء الكثير منها بالإضافة إلى التّلاعب بالتسلسل الزّمني “الكرونولوجي” في المنطقة بأسرها، وذلك بهدف محو وجود أكثر المدن الكنعانية أهمية في الألف الثّالث قبل الميلاد، ومن ناحية أخرى لا يجب أن يتمّ تسويق نتائج هذه الحفريات المشكوك فيها على أنّها إثبات لعدم صحّة بعض روايات العهد القديم “التّوراة”، فإلغاء مراحل أساسية من تاريخ القدس هو أهم بالنّسبة للاحتلال من ثبوت عدم صحة روايات التّوراة، ولا سيّما أنّ بعض المؤرّخين يأخذ بنتائج التّنقيبات ويعدّها صحيحة من دون تدقيق الأمر الذي يجعل إعلان النّتائج الأثرية بديلاً للغاية من تقديم قراءات وتفاسير غير صحيحة لروايات التّوراة، أمّا معطيات كتاب التّوراة فتؤكّد بدّقة أنّه لا وجود لحضارة أو ملكة تحمل اسم “إسرائيل” أو “يهودا”، وبعد التّدقيق في تلك المعطيات لا داعي لانتظار نتائج تلك الحفريات لأنّها لن تثبت شيئاً من ادّعاءات التّوراتيين، ومن ناحية أخرى سيلجأ من يقف وراءها في الكيان المحتل إلى تزويرها بأساليب مختلفة”.
ونقف الآن عند كتابين أرّخ مؤلّفاهما للقدس، وأمّا الأوّل فهو “رحلات الفارس دارفيو إلى فلسطين” للدّكتورة الرّاحلة ليلى الصّبّاغ، إذ قدّم الدّكتور محمود الحسن ـ مجمع اللغة العربية ـ قراءةً موجزةً له، يقول: “تتحدّث الدّكتورة ليلى في هذا الكتاب عن “دارفيو” وهو فرنسي ولد 1635في ريف مارسيليا، وكان يعمل مع والده في الزّراعة وبعد وفاة والده في عام 1659 انتسب إلى إحدى كلياتها، ثمّ قرر العمل في التّجارة، وكانت الولايات العثمانية تستهوي التّجار الفرنسيين، بما فيها لبنان وفلسطين وسورية، ووصل “دارفيو” إلى الإسكندرية وأقام فيها، ثمّ انتقل إلى صيدا وعمل هناك بالتّجارة وقام برحلات كثيرة، ومنها رحلاته في فلسطين، وصار يصف الموانئ والمدن الفلسطينية، فنراه يصف مدينة عكا بأنّها مدينة يخيّم عليها الخراب، وحيفا بأنّها لعمليات التّهريب، بينما يرفع من شأن ميناء طنطورة ويصوّره على أنّه أكثر الموانئ نشاطاً، لكنّه يقف كثيراً عند ولاية غزة وكان يسمّيها عاصمة فلسطين بسبب وقوعها على طريق التّجارة بين دمشق ومصر، وأمّا القدس في مذكراته فلم يكن لها شأناً كبيراً.
ويضيف الحسن: “المذكرات بشكلٍ عام تتّسم بالموضوعية والعقلانية، لكن ما أساء لها أحياناً كرهه للإسلام والأتراك وتعصّبه للكاثوليكية، وينبّه إلى أنّ اليهود كانوا يقدّسون صفد حصراً، وكان أثرياؤهم يصرّون على أن يدفنوا موتاهم فيها، ويذكر أنّ إحدى الثّريات اليهوديات بنت بعض البيوت قرب طبريا وأتت بـ”أكوام” من اليهود، لكن العثمانيين كشفوا أنّ مرادها من ذلك هو الاستيطان فطردوها”.
وأمّا الكتاب الثّاني فهو “كيف سلّم هؤلاء بيت المقدس للفرنج الصّليبيين” للدّكتور عمار النّهار الذي وضع الحضور في صورة ما تضمنه الكتاب، يقول: “لم أرد أن يكون كتاباً مترفاً بل دراسة تاريخية ذات أبعاد سياسية، صلاح الدّين حرر القدس في عام 583 للهجرة، وفي عام 626 للهجرة سلّم ورثته القدس للفرنجة، أي بعد 35 عاماً فقط، وأبيّن في الكتاب حالة سلبية في تاريخنا، لأنّ التّاريخ هو مستودع التّجارب، ومنه نأخذ قوانين النّجاح أو السّقوط، مضيفاً: “في الكتاب إسقاطات كثيرة، وكنت سأتحدّث عن خيانة واحدة لبيت المقدس، وإذ بي أمام خيانات، القضية ليست في تفصيلات الكتاب، بل في الإسقاطات المعاصرة”.