الكيان بدأ يدرك فقدان مصدر شرعيته المزعومة
بشار محي الدين المحمد
لا بد من قراءة المشهد الداخلي للكيان الإسرائيلي لمعرفة نتائج عملية طوفان الأقصى وما يقابلها من عدوان فاشي على أهلنا في غزة خصوصاً وغيرها من مناطق في الضفة الغربية أو حتى في جنوب لبنان، وأول أمر يمكننا إدراكه هو أن سلطات الكيان الصهيوني وحتى اللحظة تحاول الابتعاد عن الإفصاح عن خسائرها عبر عدة طرق أولها ضغط الخسائر وإعادة توزيعها على عدة أيام وعدة جبهات، وبطريقة تدريجية عبر الإعلام أن هناك جرحى ومن ثم الإعلان عن مقتلهم في وقت لاحق ممدد، ففي اللحظات الأولى من “طوفان الأقصى” قتل نحو 1400 صهيوني بين عسكري وما قيل إنه “مدني” لأن المدني هو احتياطي في الجيش ويحمل أسلحة رشاشة ولا ندري لماذا الإصرار على إلصاق صفة المدني به، كما أن الخسائر على جبهات الشمال مع المقاومة الوطنية اللبنانية لا يتم تسليط الضوء عليها نهائياً من قبل جيش حرب العدو رغم فداحتها، أما بالنسبة للآليات ولدبابات والمدرعات والجرافات والمسيرات والمروحيات فهي لا ترد لا من قريب ولا من بعيد ضمن أي من تقارير العدو، في وقت وثقت المقاومة عمليات ضرب لـ160 آلية للعدو، وبالتأكيد تلك الآليات بداخلها طواقم أصيبت وقتلت وهي أيضاً لم تحتسب بعد.
المسألة الأخرى هي سلاح المقاومة الفلسطينية ومن أين يدخل، وطبعاً من المعلوم أن هناك أنفاق وطرق تهريب بحرية ساهمت في دخول الأسلحة للمقاومة من أماكن ومصادر متفرّقة، لكن النقطة الأهم لدى الشارع الإسرائيلي هي افتضاح عمليات فساد ضخمة داخل جيش حرب العدو، فالأسلحة التي كان يتم الإعلان عن فقدانها يومياً اتضح أن ضباط العدو الفاسدين قاموا ببيعها لتجار ووسطاء حتى وصلت إلى المقاومة وفقاً لصحافة العدو ذاتها التي كتبت عدة مرات تحت عنوان “ما تسقط علينا هي صواريخنا”. وطبعاً هنا لا ننكر فضل المقاومة في تسليح ذاتها وبنائها لورش تطوير وتصنيع الصواريخ التي أثبتت قدرتها اليومية على إمطار الأهداف الإسرائيلية بـ5000 صاروخ يومياً وبمدى آخذ بالتوسع والتقدم ابتداءً من الهاون ووصولاً إلى تطوير “القسام” و”بدر” وغيرها من المفاجآت التي ستذيق هذا العدو ما لم يذقه منذ حرب تشرين التحريرية عام 1973.
إن سبب التخبط الإعلامي للعدو يكمن في أن شارعه قد انتفض وثار وتحول شعاره الزائف من “معاً سننتصر” إلى “لا نريد خسائر”. نعم لقد أيقن هذا الشارع أن جيش حربه بعد دخول العدوان على غزة شهره الثاني ما زال عاجزاً عن تحقيق أي هدف واضح للجمهور، وأن حتى أسرى العدو لن يحررون إلا عبر التفاوض والسياسة والحرب ستقتل ما تبقى منهم، وتنقل هدف التفاوض على جثثهم، فهناك جنرالات في العقد السابع من العمر يرسلون قوات كوموندوز في العقد الثاني من العمر إلى موت محقق وبلا هدف وهذه مسألة لن يسكت عنها الشارع الإسرائيلي المقسوم أساساً لمدة أطول من ذلك.
وعلى الضفة الأخرى نرى رئيس حكومة العدو المتطرفة بنيامين نتنياهو الذي وضع نصب عينيه هدف التخلص من الكتلة البشرية الموجودة في غزة وتهجيرها وإبادة أكبر عدد ممكن منها، إلا أن ضغوط الشارع الإسرائيلي بدأت تتزايد عليه لإيقاف جنونه، فبعد كرههم له لفساده الآن يكرهونه كونه تسبب في غياب الأمن داخل مجتمعهم بعد إخلاء غلاف غزة بالكامل ومستوطنات الشمال، حيث باتوا أمام أكثر من 200 ألف مستوطن هاجر مسكنه داخلياً و230 ألف مستوطن غادروا إلى خارج الكيان قبل تاريخ الـ12 من الشهر الجاري، بعد ما شاهدوه من مقاومين يركبون دراجات نارية في وضح النهار يجتازون أقوى تحصينات وتقنيات العدو ويأسرون قادتهم ويهاجمون ثكناتهم وقطعهم دون أي رد فعل، وفي مؤشر واضح للفشل الإستخباري والعسكري لجيش حرب الكيان. وحتى تصريحات وزير ثقافة العدو حول ضرب الشعب الفلسطيني لم تأتِ من فراغ بل أتت من إدراكه اليائس لعجز جيشه عن تحقيق أي انتصار مهما طالت عملية العدوان على غزة.
لقد أيقن الداخل الإسرائيلي أن حرب كيانهم الحالية تخدم فقط أسرة نتنياهو بما فيها نجله يائير الهارب إلى الولايات المتحدة الأمريكية وزوجته سارة التي تشاركه الحكم والفساد، وتتعالى صرخات الجموع الإسرائيلية عن سبب إصرار هذا المتطرف على ضرب الأطفال والمشافي والأطباء أمام كل كاميرات العالم، بشكل نفّر حتى الغرب وجعلهم يبدلون تصريحاتهم رسمياً، وحتى الإدارة الأمريكية التي سرعان ما بدأت تسحب ذيولها من المشهد. إن السبب معروف عموماً فنتنياهو يطيل أمد الحرب لا أكثر لإطالة أمد بقائه في السلطة قبل محاسبته على ما اقترفه من فساد ودمار في كيانه قبل أنواع الدمار الأخرى التي اقترفها وبحثه العبثي عن أي إنجاز قد يغفر له ما ارتكبه، وهذا ما يشبهه المفكرون الإسرائيليون بـ”طريقة حرب فيتنام” والتي كان خلالها الجيش الأمريكي يسوق انتصاره فيها من خلال التكلم عن عدد القتلى والضحايا في صفوف الشعب الفيتنامي دون الحديث عن تحقق أدنى هدف لهم، وهذا مؤشر فشل تام، وهو بالضبط ما يفعله جيش العدو الذي يتفاخر بأعداد الأطفال والنساء الذين ارتقوا شهداء تحت آلة قتله، وفق تبريرات كثيرة نسمعها أحياناً على لسان الناطق باسم جيش حربهم أفيخاي أدرعي الذي يدعي أن “المقاومة تحتجز الشعب الفلسطيني في المدارس والمشافي لتنفيذ عملياتها”. في وقت نشاهد جيشه يحول ما سماه “معابر آمنة” إلى طرق لقتل واعتقال المدنيين السالكين لها. وكل ما يحصل يجعل الصورة الإسرائيلية تهتز أكثر بعين العالم شرقاً وغرباً.
يعلم المجتمع الصهيوني أن مصدر شرعية كيانه الوحيد هو “الجيش الإسرائيلي”، فلا أساس قانوني يستندون عليه ولا أساس تاريخي ولا ثقافي يثبت أحقيتهم في احتلال الأرض الفلسطينية، كما يعلم الآن أن هذا الجيش هو نمر من ورق ويتقهقر في تراجعه منذ هزيمته في تشرين الـ73 من فشل لفشل، ففي رواية “الجندي الأخير” يشبه أحد أدباء الكيان رئيس أركان جيش حرب العدو براقصة الباليه التي تتجمل وتخلع شعرها المستعار بعد العرض، كما يصف التدريب المضحك، والنماذج المريضة نفسياً لقيادات هذا الجيش التي تسلط سلاحاً رشاشاً في وجه عجوز فلسطيني أو بوجه طفل دون أي سبب ناهيك عن ممارساتهم ضدّ العزل على الحواجز وفي القرى والبلدات، مؤكداً أن هذا جيش جبناء ويسير بكيانهم نحو الهاوية بغبائه وضعفه.
أما الأخطر في أعين الكيان هو مشاهدته لـ57 دولة تجتمع ضده تحت سقف واحد في القمة الطارئة مع تواجد لمحور المقاومة مع محور “الاعتدال” وسط تنسيق وتقارب سعودي – إيراني كبير يشي بدخول قطار التطبيع الصهيوني – العربي في الثلاجة، وخاصة بعد طرد وسحب السفراء من الدول العربية والإسلامية بطريقة مهينة لكيانهم الصهيوني.