سعي أمريكي نحو الحروب ومساعٍ صينية للتفاهم
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد
إن المتابع للخطوات التصعيدية للإدارة الأمريكية حول العالم لا يستنتج منها سوى سعيها لإشعال الصراعات حتى لو وصلت إلى درجة إشعال الحرب العالمية الثالثة؛ لكونها تدافع باستماتة عن مصالح شركات أو أشخاص يحكمون العالم بأسره ويطمحون لاستغلال كل ثرواته لمصالحهم الشخصية في إطار تكرسيهم لليبرالية الحديثة التي تسحق كل جهود اجتماعية عبر التطور التقني لصالح تلك الفئات الرأسمالية التي بدأت تسيطر حتى على الأدوية الضرورية لاستمرار الحياة ورفع سعرها بشكل خيالي يزيد مكاسبهم ولو على حساب إماتة ملايين البشر.
إن الجيش الأمريكي ينشط على عدّة مسارح عالمية عبر قواته وقواعده وحاملات طائراته بالتعاون مع حلفاء له، إلا أنهم جميعاً في حالة ترهل وعدم جاهزية ملحوظة وما فيهم يكفيهم من الأزمات الداخلية والمالية وحتى السياسية، حتى الإنتاج الأمريكي المتفوق في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بات الآن وهماً، في وقت تنتج على سبيل المثال البحرية الصينية أكثر من مئة سفينة سنوياً، ناهيك عن تضاعف الديون الأمريكية التي باتت تهدد بإفلاس وشيك لاقتصادها المتهاوي. ولكن مع ذلك تصرّ الإدارة الأمريكية على إقحام نفسها في صراعات جديدة آخرها وقوفها مع “إسرائيل” إبان “طوفان الأقصى” وبشكل قد يهدد بتوقّف تدفق النفط والغاز عبر مضيق باب السلام “هرمز” في ظل توتر غير مسبوق في البحر الأحمر ناجم عن الاستفزازات الأمريكية لمحور المقاومة القطب الأقوى في المنطقة، ما قد ينذر بالمزيد من الأزمات الاقتصادية حتى لواشنطن نفسها إن تطورت الاستفزازات إلى حرب أو تبادل اشتباكات قد تغلق الطريق البحري، وبالتالي يكون الاقتصاد العالمي أمام تجاوز سعر النفط الـ100 دولار للبرميل الواحد.
لقد كانت الإدارة الأمريكية تسنّ أسنانها لخوض صراعاتٍ على جبهتي آسيا والشرق الأوسط، ومع ذلك لم تكن جاهزة لخوض حروب وصراعات على الجبهتين معاً، والسؤال هنا كيف تستمر في خطاها التصعيدية تلك بعد أن ورطت نفسها وحلفائها بصراع ممتد وطويل الأمد على جبهة أوروبا الشرقية ضدّ روسيا؟، والذي لم يمتد بل بقي محدوداً حتى تاريخه لكنه مع ذلك بدأ ينهش مقدّرات أمريكا والغرب ويلقي بظلاله السلبية على العالم بأسره. والجواب الأقرب للواقع هو أن أمريكا في حالة هلع تام من التفوق والنمو الصيني على جميع الصعد، وفي الوقت ذاته تصرّ واشنطن على النظر إلى بكين بالعين “الصقورية”، إذ تعتبرها منافساً إن لم نقل “عدواً”، لذلك تصرّ على استفزازها سياسياً وعسكرياً عبر الزيارات المشبوهة للمسؤولين الأمريكيين إلى تايوان وتحريك القطع العسكرية البحرية وحتى الجوية الأمريكية في مياه وسماء آسيا – الهادي، ومع ذلك تبقى التساؤلات ماثلة حول قدرة الجيش الأمريكي على إحراز أي خطوات قد تحقق له المكاسب بعد خساراته المدوية عسكرياً وسياسياً ومالياً في حربي أفغانستان والعراق.
وحتى على الصعيد السياسي الدولي نلحظ مدى تراجع التصفيق والتأييد لحروب “الكاو بوي” الأمريكية، حيث قوبلت الحرب الأوكرانية على الأقل بالحيادية أو الوقوف إلى جانب روسيا من قبل معظم الدول، والتي رفضت أيضاً فرض العقوبات على روسيا أو امتنعت عن التصويت لصالح فرضها، أما في المرحلة الراهنة فنشاهد شارعاً عريضاً يقف ضدّ الاعتداءات الصهيو-أمريكية على الشعب الفلسطيني، وخاصةً في غزة، واستهجاناً للوجود العسكري الأمريكي في مياه الشرق الأوسط الذي يعد بمثابة استفزاز وسعي للحرب ضدّ القوى الإقليمية في المنطقة بهدف استنزاف محور المقاومة، حيث تدعي واشنطن في الوقت نفسه عدم رغبتها بتوسيع الحرب، متناسيةً حق شعوب المنطقة في الدفاع عن قضيتها المركزية وفي الدفاع عن سلامة أراضيها من وجود القواعد العسكرية الأمريكية غير الشرعية، ما يرجح قابلية هذا الصراع للتوسع والتمدد بدرجة أكبر بكثير من الصراع في أوكرانيا.
على المقلب الآخر نلحظ مدى الهدوء والرصانة السياسية والدبلوماسية للصين عبر سعي زعيمها شي جين بينغ للقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن في قمة “إيباك” للتوافق على عدد كبير من الأمور الإستراتيجية، وبلا شك فإن دافع الصين لتلك الخطوة ليس “التراجع الاقتصادي” كما يروّج بعض المعادين لها، بل همها الأساسي إعادة الاتصالات العسكرية مع الجيش الأمريكي التي تم قطعها منذ أكثر من عام على خلفية زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي -في حينه- نانسي بيلوسي إلى تايوان بصورة استفزازية ولقاعها القوى الانفصالية فيها ضدّ الوطن الأم الصين، كما يسعى الرئيس جين بينغ إلى تجميد عملية الصراع والاندفاع الأمريكي في تشكيل تحالفات مشبوهة مع جيران الصين لتطويقها، والحيلولة دون انزلاق أي خلاف أو حادث في المنطقة إلى حرب قد لا تحمد عقباها، فضلاً عن رغبة الصين بتحقيق التنمية الاقتصادية لنفسها ولكل الدول دون استثناء، وتجديدها التأكيد على عدم اعتمادها مبدأ التفوق أو القوة العسكرية أو حتى المنافسة سواءً مع أمريكا أو أي طرف آخر، وبالتأكيد سينتج هذا التفاهم التخفيف من العقوبات والرسوم والقرارات الاقتصادية الأمريكية بحق التجارة الصينية والقطاعات الاقتصادية الأخرى فيها.
لقد سبق أن التقى جين بينغ مع نظيره الأمريكي قبل عام في “بالي” بهدف عدم تحول المنافسة بين أمريكا والصين إلى صدام أو صراع، وأدعى بايدن عدم رغبته في أي حرب باردة مع الصين، لكن تلك التصريحات المتفائلة لم تثمر على الأرض، وذلك بسبب الرعونة الأمريكية التي ترفض من الصين وقوفها على الحياد في الحرب الأوكرانية وتريد منها موقفاً ضاغطاً على روسيا، إضافةً إلى النمو الاقتصادي الصيني الذي تربطه واشنطن بالنمو العسكري والمخاوف من استخدام الذكاء الاصطناعي وتقنياته من قبل الصين بشكل يهدد الامبريالية الأمريكية وهيمنتها على العالم. أما القمة الحالية في “إيباك” فمن المتوقع أن تصل إلى تفاهم بين الجانبين الصيني والأمريكي على الأمور الإستراتيجية وعلى رأسها الوضع في آسيا، وخفض التوترات في تايوان وبحر الصين الشرقي والجنوبي.
ولكن مع كل ذلك تكمن المشكلة الأمريكية في سوء النوايا وعدم تنفيذ الوعود، فهي على سبيل المثال اعترفت باحترام مبدأ “الصين الواحدة” لكنها بنفس الوقت لم تقدّم حتى تاريخه أي ضمانات، أو تثبت قطع علاقاتها وخاصة العسكرية مع الحركات الانفصالية في تايوان، وهي تحاول الوقوف على الطرف المناقض للصين على كل المستويات والقضايا العالمية، في وقت تلتزم فيه الصين الدفاع عن حقوقها ودعم كل الشعوب في سبيل الحفاظ على حقوقها وسيادتها.