سلامة عبيد.. أديب ومؤرّخ و”سفير” العربية في الصّين
نجوى صليبه
تبدأ سلمى كتابها الذي يحمل اسم والدها “سلامة عبيد 1922 ـ 1984” ـ صادر عن دار “ليندا للنّشر والتّوزيع والطّباعة” في عام 2018ـ بتقديم لمحة موجزة عن حياته الثّقافية الغنية، ونقتبس منها: “هو ابن الشّاعر والمجاهد علي حسين عبيد، أحد أركان الثّورة السّورية الكبرى.. سافر إلى الصّين وأشرف على قسم الّلغة العربيّة في جامعة “بكّين”، ودرّس في جامعاتها، ووضع عدداً كبيراً من الكتب التّعليمية للطّلاب الصّينيين، وأمضى ما يزيد على العشر سنوات في عمل يومي دؤوب لإنجاز القاموس الصّيني ـ العربي الكبير الأوّل من نوعه.. كتب قصيدة “الله والغريب” وفيها يدعو الله أن يتوّفاه في بلده، وهذا ما كان، فقد توفي بعد يوم واحد من عودته إلى الوطن، ويقول في القصيدة: يا ربّ لا تغمض جفوني هنا/ هنا قلوب النّاس بيضاء/ وأرضهم ماء وأوفياء/ لكنّ بي شوقاً إلى أرضي / لجبل الرّيان والسّاحل / ألقي عليه نظرة الرّاحل .
وتخصص سلمى الفصل الأوّل من كتابها لأعمال الأديب سلامة عبيد المطبوعة والمخطوطة، وتختار بعضاً منها، فمن خلال ديوانه “لهيب وطيب” تضع القارئ في صورة مواضيع عديدة كتب فيها وتنوّعت بين حبّ الوطن والشّوق والطّبيعة، وأمّا نحن فنختار قصيدته التي كتبها في مدينة السّويداء في عام 1953 بعنوان “الخريف”، يقول: عاد الخريف/ فللوريقات اصفرار وارتجاف/ ولهنّ في الوادي حفيف/ مثل ابتهال النّاسكين / والغيم مرتعشاً يمرّ / ويهيم يرسم في الفضاء/ صوراً يوشيها الضّياء .
ومن قصائده النّقدية السّاخرة التي كانت تنشر في مجلة “المضحك المبكي”، تذكر سلمى قصيدته “قليط” وهو فرع من نهر بردى يعرف بقلّة مياهه ورائحته البشعة، يقول عبيد: قيل ما لي أرى “قليط” عبوساً/ كالحاً حاملاً من الوحل وزرا / يأنف الأنف أن يمرّ بشطّيه / وتمضي العيون تنظر شزرا/ فأجاب النّهر الذي خلّدته/ آلهات الفنون نثراً وشعرا/ يا بني هذه المدينة إنّي/ لا أرى في نقيض حالي سرّا/ كيف أصفو؟ وكلّما اجتاز سيلي فيض بالوعة، وقعت بأخرى.
“اليرموك” عنوان مسرحية شعرية كتبها خلدون الكناني وصاغها عبيد شعراً، تقول سلمى: “لهذه المسرحية قيمةٌ تاريخيةٌ بالإضافة إلى قيمتها الأدبيّة، إذ لم تكن المسرحيات الشّعرية في ذلك الوقت واسعة الانتشار في الوطن العربي، وبذلك يكون سلامة عبيد من الرّواد القلائل في هذا المجال، وقد أكّدت ذلك العديد من المقالات، ومثّلت أوّل مرّة في عام 1943، ثمّ كانت تُعاد سنةً بعد أخرى في بلدات وقرى السّويداء، على مسارح بعضها تاريخيّ وبعضها ارتجاليّ، وكانت قصيدة “ذكّرينا” هي مقدمة المسرحية وفيها يقول عبيد: ذكّرينا فقد ألفنا التّصابي/ ورخيص الهوى ورجع الرباب/ ونسينا أيّام كنّا أباة/ نملأ الكون بالنّدى والشّباب/ يا ضفاف اليرموك ما لكِ / أقفرتِ من الشّم والأسود الغضاب؟/ يا ضفاف اليرموك ما لك / أغضيت ِ على غمزة الزمان المحابي /يا ضفاف اليرموك آن لك البعثُ، فميدي، وهللي يا روابي.
لسلامة عبيد في أرشيف مجلة “أسامة” عدد كبير من القصص التي كتبها للأطفال أو ترجمها، كذلك في رصيده عدد من القصائد منها “أغنية الشّتاء”، ومنها نقتبس: مرحبا بالشّتا مرحبا بالمطر/ يا هلا بالشّتا يا هلا بالمطر/ في الرّبا والمروج راقصات الثّلوج/ فالسّواقي رباب والغصون الوتر/ وإلى المعهد باكراً نغتدي / والمسا نلتقي حيث يحلو السّهر .
وله أيضاً رأيه في الشّعر النّبطي، تقول سلمى (ص112): “عند زيارة الإمارات، غالباً ما يمضي الزّائر وقته مستمتعاً بزيارة مراكز التّسوّق والمطاعم والمتنزهات.. سلامة عبيد كان قادماً من الصّين التي كانت تعيش في ذلك الوقت حياة تقشّفٍ صارمةٍ، ومع ذلك لم تغره كلّ هذه الرّفاهية، بل كرّس إجازته لإنجاز عمل أدبيّ لغويّ تاريخيّ هو “الشّعر النّبطي في الإمارات المتّحدة”، فقد اطّلع على هذا الشّعر واستهواه، وقرأ عنه دراسات عديدة”.
وفي الفصل الثّاني من الكتاب، توثّق سلمى لشهادات نقّاد وأصدقاء، ونذكر اثنتين على سبيل المثال لا الحصر، الأولى: اختيار سيف الدّين القنطار شخصية سلامة عبيد لتكون من بين خمسة أعلام كتب عنهم في كتابه “أعلام في السّياسة والأدب والفن” الصّادر عن اتّحاد الكتّاب العرب في عام 2013، يقول القنطار: “كان عبيد لمّاحاً، سريع الخاطر، يتقن فنّ السّخرية، وما يزال الكثيرون يردّدون نوادره المحببة.. كتب سلامة عبيد عن نفسه وعن عصره، ومن يكتب عن نفسه وعن عصره بصدق، فهو يكتب عن كلّ النّاس وكلّ العصور”، وأمّا الشّهادة الثّانية فهي للنّاقد محمد طربيه الذي خصص فصلاً من عشرين صفحة في كتابه “تاريخ ومؤرخون” للحديث عن سلامة عبيد المؤرّخ، يقول: “لا تقتصر مساهمة عبيد في ميدان التّاريخ على كتابه “الثّورة السّورية الكبرى”، بل إنّها تتعدّى ذلك إلى أبحاث ومداخلات ربّما ليست معروفة للكثيرين، من ذلك مقالة بعنوان: “العرب بين الفتوح والتّحرير” في العدد الثّلاثين من مجلة “المعرفة” السّورية الصّادر في آب من عام 1964، وقد طرح فيها أفكاراً رائدةً لم تكن معتادةً في تلك الفترة، فقد دعا إلى إعادة النّظر في الكثير ممّا كان يعدّ مسلّمات تاريخية”.
وهنا لا بدّ من التّذكير بكتابه التّوثيقي “أمثال وتعابير شعبيّة من السّويداء ـ سورية” الذي صدرت طبعته الأولى عن وزارة الثّقافة في عام 1983، وأمّا طبعته الثّانية فقد صدرت عن دار “أمل الجديدة للطّباعة والنّشر والتّوزيع ـ دمشق” في عام 2016، والكتاب كما يوضّح عبيد في مقدّمته التي كتبها في عام 1979 هو حصاد أكثر من عشرين عاماً من العمل، إذ جمع هذه الأمثال من أفواه النّاس في الشّارع والبيت والدّكان والمضافة، ويضيف: “هذه الأمثال ليست أمثالاً جبلية المنبت والمجال، فالجبلي المحلي الصّرف قد لا يتجاوز العشرة في المائة منها، أمّا البقية فهي مشتركة مع الأمثال السّورية ـ العربية الشّعبية والحيّة والسّائرة”، إلى قوله: “التّناقض بين هذه الأمثال واضح، بعضها يحثّ على الإسراف وعدم الاكتراث بالغد، وبعضها يحثّ على الحرص والحذر.. هذه الأمثال تصوّر عقلية الشّعب في شتّى حالاته، ولا شكّ في أنّها جميعها مادّة للدّراسة وموضوعاً لبحث اجتماعي موسّع، ولا سيّما إن صنّفت حسب موضوعات أساسية رئيسة أو حسب الكلمات الرّئيسة الواردة فيها”.
للأديب ترجمات كثيرة في الشّعر والرّحلات والقصص، ومنها “النّساجة وراعي البقر” الأسطورة الصّينية التي ترجمها عن اللغة الصّينية وصدرت طبعتها الأولى في عام 2016 عن دار “أمل الجديدة” التي صدر عنها أيضاً في العام ذاته ترجمته لـ “رحلة في جبل حوران ـ مقتطفات” للقس “بورتر”، ومن فصلها الثّالث عشر نقتبس: “كان برنامجنا اليومي الوصول إلى صلخد ثمّ العودة منها إلى القريّة، كانت على بعد ساعتين من بصرى.. كان طريقنا الطّريق الرّوماني الذي ينساب في خطّ مستقيم حتّى صلخد، مبتدياً بالصّعود الخفيف من بوابة بصرى وقد فضّلنا السّير في الحقول اللينة على السّير فوق الرّصيف الصّعب، وقد لفت نظرنا قرية برد الجاثمة فوق مرتفع من الأرض، وبدا لنا أنّ أبنيتها كبيرة مزخرفة فقررنا أن نعرّج عليها”.
ولم يتوقّف إنتاج سلامة عبيد الأدبي عند الشّعر والتّأريخ والمقالات الصّحفية والتّرجمة والقصص القصيرة، بل تعدّاها إلى الرّواية، تحديداً روايته “أبو صابرـ الثّائر المنسي” التي صدرت في عام 2019 عن “دار العوام للنّشر” بالسّويداء، وفي مقدمتها يبيّن عبيد أنّ أبو صابر بطلٌ من بقايا السّيوف، ويقول بكلّ شفافية ومصداقية: “قصّة حياته أسطورة إباء وإيمان.. كان يتكّلم وكنتُ أسجّل حديثه يوماً بعد يوم، تكاد تكون كلمات هذه القصّة كلماته بنصّها والصّور صوره بألوانها وأبعادها، لو كنت قصّاصاً لأبدعت له نهاية غير تلك النّهاية، لكنّي كتبت هنا ما سمعت ورأيت.. سيختلف الأدباء والأصدقاء في تقييم هذا العمل الأدبي، فنّاً ولغةً وتأثيراً، لكنّهم يتّفقون جميعاً على أنّها قصّة رواها ثائر صادق وكتبها قلم آثر أن يظلّ صادقاً”.
في أيلول من عام 2001 أقام اتّحاد الكتّاب العرب ندوةً تكريميةً للرّاحل، قدّم فيها أدباء وأصدقاء عدداً من أوراق العمل، وفي آذار من عام 2007 أقامت وزارة الثّقافة ندوةً تكريميّة في المركز الثّقافي في السّويداء استمرّت أياماً عدّةً، لكن ما يزال هناك الكثير لقوله وبحثه ودراسته في كلّ ما تركه سلامة عبيد من منتوج أدبي وثقافي وأثر أخلاقي جميل بين طلّابه العرب والأجانب.