جيفري ساكس في إحاطة لمجلس الأمن: الحروب الأربع ليست مستعصية الحل
ترجمة: قسم الدراسات والترجمة بتصرف
في 20 تشرين الثاني 2023، عقد مجلس الأمن الدولي مناقشة مفتوحة حول “تعزيز السلام المستدام من خلال التنمية المشتركة” في إطار بند جدول الأعمال “صون السلام والأمن الدوليين”. وقد تمّت دعوة رئيس شبكة حلول التنمية المستدامة جيفري ساكس لتقديم إحاطة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن الحفاظ على السلام.
السيد الرئيس سكرتير السفراء
الرئيس العام لبنك التنمية الجديد
السيدات والسادة الدبلوماسيون
سأشير في شهادتي إلى أربع (حروب): حرب أوكرانيا، التي بدأت في عام 2014 بالإطاحة العنيفة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، والحرب الإسرائيلية على فلسطين، التي اندلعت مراراً وتكراراً منذ عام 1967؛ والحرب على سورية التي بدأت عام 2011؛ وحروب الساحل (ليبيا)، التي بدأت في عام 2012 وانتشرت الآن في جميع أنحاء منطقة الساحل.
لقد حصدت هذه الحروب وغيرها من الحروب الأخيرة أرواح الملايين، وأهدرت تريليونات الدولارات من النفقات العسكرية، ودمّرت الثروات الثقافية والطبيعية والاقتصادية التي بنيت على مدى أجيال بل وآلاف السنين. قد تبدو هذه الحروب مستعصية على الحلّ، لكنها ليست كذلك، والحقيقة أنني أقترح أن الحروب الأربع من الممكن أن تنتهي بسرعة من خلال الاتفاق داخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
بدايةً يجب وقف التمويل الخارجي وتصدير السلاح، ومن الممكن أن يتفق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على خنق هذه الحروب الفظيعة من خلال حجب التمويل الخارجي والتسليح، وهذا يتطلب اتفاقاً بين القوى الكبرى. والسبب الآخر الذي يجعل هذه الحروب تنتهي بسرعة هو أنها تنتج عن عوامل اقتصادية وسياسية يمكن معالجتها من خلال الدبلوماسية وليس من خلال الحرب. ومن خلال معالجة العوامل السياسية والاقتصادية الأساسية، يستطيع مجلس الأمن أن يهيئ الظروف الملائمة للسلام والتنمية المستدامة، دعونا ننظر في كل من الحروب الأربع على حدة.
الحرب في أوكرانيا
الحرب في أوكرانيا لها سببان سياسيان رئيسيان: الأول هو محاولة حلف شمال الأطلسي التوسع في أوكرانيا على الرغم من الاعتراضات الروسية المتكررة والملحة بشكل متزايد. والسبب السياسي الثاني هو الانقسام العرقي بين الشرق والغرب في أوكرانيا، جزئياً على أسس لغوية وجزئياً على أسس دينية. ففي أعقاب الإطاحة بالرئيس يانوكوفيتش في عام 2014، انفصلت المناطق العرقية الروسية عن حكومة ما بعد الانقلاب وطالبت بالحماية والحكم الذاتي. وقد دعا اتفاق مينسك الثاني، الذي أقرّه هذا المجلس بالإجماع في القرار رقم 2202، إلى إدراج الحكم الذاتي الإقليمي في دستور أوكرانيا، لكن الاتفاق لم ينفذ قط من قبل حكومة أوكرانيا على الرغم من دعم مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
السبب الاقتصادي للحرب ينبع من حقيقة أن الاقتصاد الأوكراني يواجه الغرب نحو الاتحاد الأوروبي، والشرق نحو روسيا وآسيا الوسطى وشرق آسيا. ولكن من المؤسف أن الاتحاد الأوروبي لم يكن مستعداً على ما يبدو للتفاوض مع روسيا بشأن مثل هذا الترتيب الثلاثي، ولم يتم حلّ التوجّه التنافسي للاقتصاد الأوكراني بين الشرق والغرب. ومن الممكن أن ينهي هذا المجلس حرب أوكرانيا بسرعة من خلال معالجة أسبابها السياسية والاقتصادية الأساسية.
وعلى الجبهة السياسية، يتعيّن على الدول الخمس الدائمة العضوية أن تتفق على تقديم الضمانات الأمنية لأوكرانيا، في حين تتفق أيضاً على عدم توسع منظمة حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا، وبالتالي معالجة المعارضة الروسية العميقة لتوسعة منظمة حلف شمال الأطلسي. وينبغي للمجلس أيضاً أن يعمل على التوصل إلى حل حكم دائم فيما يتعلق بالانقسامات العرقية في أوكرانيا.
الحرب بين فلسطين و”إسرائيل”
ولننظر بطريقة مماثلة إلى الحرب بين فلسطين و”إسرائيل”، وهنا أيضاً يمكن إنهاء الحرب بسرعة من خلال قيام مجلس الأمن بإنفاذ العديد من قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التي تم اتخاذها على مدى عدة عقود والتي تدعو إلى العودة إلى حدود عام 1967، وإنهاء الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، وحل الدولتين، بما في ذلك مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. لذا، فقد حان الوقت لكي يقوم مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بإنفاذ قراراته، من خلال تنفيذ حل عادل ودائم، بدلاً من السماح للمتشددين بتجاهل ولاية هذا المجلس وانتهاك تفويضه، وبالتالي تهديد السلام العالمي.
توصيتي لهذا المجلس هي أن يعترف فوراً بدولة فلسطين، في غضون أيام أو أسابيع، وأن يرحب بفلسطين كعضو كامل العضوية في الأمم المتحدة، وعاصمتها القدس الشرقية ولها سيطرة سيادية على الأماكن الإسلامية المقدسة. وينبغي للمجلس أيضاً أن ينشئ قوة لحفظ السلام، مؤلفة بكثافة من الدول العربية المجاورة، للمساعدة في توفير الأمن في فلسطين. إن مثل هذه النتيجة تشكل الإرادة الساحقة للمجتمع الدولي.
وكما هي الحال في أوكرانيا، فإن فشل هذا المجلس في فرض قراراته السابقة بشأن فلسطين جعل حلّ الوضع الحالي أكثر صعوبة، وقد توسعت المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية حتى الآن لتشمل أكثر من 600 ألف مستوطن. ومع ذلك فإن انتهاك “إسرائيل” الصارخ لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في هذا الصدد ليس سبباً للتراجع عن اتخاذ إجراء حاسم الآن، خاصة وأن غزة مشتعلة بالنيران، والمنطقة الأوسع أصبحت بمثابة برميل بارود يمكن أن ينفجر في أي لحظة.
وينبغي أن تصاحب الإستراتيجية الاقتصادية الإستراتيجية السياسية. والأهم من ذلك، أن دولة فلسطين الجديدة ذات السيادة يجب أن تكون قابلة للحياة اقتصادياً، وهذا سوف يتطلب العديد من التدابير الاقتصادية:
أولاً، ينبغي لفلسطين أن تستفيد من احتياطيات النفط والغاز البحرية في المياه الإقليمية الفلسطينية.
ثانياً، يتعيّن على صندوق السلام والتنمية الجديد أن يساعد فلسطين في تمويل إنشاء ميناء حديث في غزة، وإنشاء طرق آمنة وخطوط سكك حديدية تربط بين غزة والضفة الغربية.
ثالثاً، يجب تقاسم موارد المياه الحيوية في وادي الأردن بالتساوي لضمان زيادة كبيرة في قدرة تحلية المياه لتلبية الاحتياجات المائية الملحة والمتزايدة.
رابعاً، وهو الأمر الأكثر أهمية، ينبغي لكل من “إسرائيل” وفلسطين أن يصبحا جزءاً من خطة متكاملة للتنمية المستدامة لمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط والتي تدعم القدرة على التكيف مع تغير المناخ وانتقال المنطقة إلى الطاقة الخضراء.
الحرب على سورية
ويمكن للمجلس بالمثل أن ينهي الحرب على سورية. لقد اندلعت الحرب على سورية في عام 2011 عندما وحدت عدة قوى إقليمية والولايات المتحدة قواها للإطاحة بحكومة الرئيس بشار الأسد، وقد فشلت هذه العملية المضللة للغاية، ولكنها أشعلت شرارة حرب طويلة الأمد مع إراقة الدماء والدمار الهائل، بما في ذلك مواقع التراث الثقافي القديمة. وينبغي للمجلس أن يوضح أن كافة الدول الخمس الدائمة العضوية والدول المجاورة لسورية متفقة تماماً على أن كل محاولات إثارة الفوضى قد انتهت الآن إلى الأبد، وأن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يعتزم العمل بشكل وثيق مع الحكومة السورية بشأن إعادة الإعمار والتنمية.
على الجانب الاقتصادي، فإن أفضل أمل لسورية هو أن تصبح مندمجة بشكل وثيق في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، وخاصة من خلال بناء البنية التحتية المادية (الطرق والسكك الحديدية والألياف والطاقة والمياه) التي تربط سورية مع دول البحر الأبيض المتوسط، ولابد أن يتم تمويل هذا البرنامج الاستثماري جزئياً من خلال صندوق السلام والتنمية المستدامة الجديد الذي أنشأه هذا المجلس.
الحرب في الساحل (ليبيا)
الحرب في منطقة الساحل لها جذور مماثلة للحرب على سورية، وكما كانت القوى الإقليمية والولايات المتحدة تهدف إلى الإطاحة بالحكومة السورية في عام 2011، كانت قوى الناتو الكبرى تهدف بالمثل إلى الإطاحة بـ معمر القذافي في ليبيا في عام 2011. وفي سعيها لتحقيق هذا الهدف، تجاوزت بشكل صارخ تفويض الأمم المتحدة. وسرعان ما امتدت الإطاحة العنيفة بالحكومة الليبية إلى البلدان الفقيرة في منطقة الساحل، فالفقر وحده جعل هذه البلدان الساحلية معرضة بشدة لتدفق الأسلحة والميليشيات. وكانت النتيجة استمرار العنف والانقلابات المتعددة، مما أدى إلى تقويض إمكانية التحسن الاقتصادي بشكل خطير.
ونتيجة ذلك يعاني جميع الأعضاء الخمسة، بل والعالم أجمع، من عواقب سلبية نتيجة لاستمرار هذه الحروب، ويدفع الجميع الثمن من حيث الأعباء المالية، وعدم الاستقرار الاقتصادي، ومخاطر الإرهاب، ومخاطر نشوب حرب أوسع نطاقاً. إن مجلس الأمن في وضع يسمح له باتخاذ إجراءات حاسمة لإنهاء الحرب على وجه التحديد، لأنه من الواضح أن مصلحة جميع أعضاء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ولاسيما جميع الدول الخمس الدائمة العضوية، هي إنهاء هذه الحروب الطويلة الأمد قبل أن تتصاعد إلى صراعات أكثر خطورة.
إن مجلس الأمن يتمتع بسلطات كبيرة بموجب ميثاق الأمم المتحدة عندما يحظى بتصميم أعضائه، ويمكنه إدخال قوات حفظ السلام، وحتى الجيوش إذا لزم الأمر، ويمكنه فرض عقوبات اقتصادية على الدول التي لا تمتثل لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ويمكنه توفير الضمانات الأمنية للدول، ويمكنه تقديم الإحالات إلى المحكمة الجنائية الدولية لوقف جرائم الحرب. باختصار، من المؤكد أن المجلس قادر على إنفاذ قراراته إذا اختار أن يفعل ذلك.
صندوق السلام والتنمية
ويتعيّن على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أيضاً أن يعزز مجموعة أدواته من خلال الانخراط في بناء السلام الاقتصادي إلى جانب القرارات المعتادة بشأن الحدود، وقوات حفظ السلام، والعقوبات، وما إلى ذلك. لقد ذكرت عدة مرات فكرة إنشاء صندوق جديد للسلام والتنمية يمكن لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة نشره لخلق ديناميكيات إيجابية للتنمية المستدامة، وتشجيع المستثمرين الآخرين مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وصندوق التنمية الإقليمي المتعدد الأطراف. البنوك – للمشاركة في الاستثمار في صنع السلام.
وأودّ أن أوصي بثلاثة مبادئ توجيهية لمثل هذا الصندوق الجديد:
أولاً، سيتم تمويله من قبل القوى الكبرى من خلال تحويل جزء من نفقاتها العسكرية إلى عملية صنع السلام العالمي، وهذا وحده من شأنه أن يحرر نحو 160 مليار دولار سنوياً. وحتى هذا المبلغ يمكن الاستفادة منه ببعض الهندسة المالية لتمكين القروض السنوية التي تبلغ قيمتها 320 مليار دولار سنوياً على سبيل المثال، وهو ما يكفي لمساعدة مناطق الحرب اليوم على البدء في التحول القوي نحو التعافي والتنمية.
ثانياً، سيركز الصندوق على التكامل الإقليمي لصنع السلام وكذلك لنجاح التنمية. وسوف تتم مساعدة أوكرانيا على التكامل بين الغرب (في الاتحاد الأوروبي) والشرق (باتجاه روسيا، وآسيا الوسطى، وشرق آسيا). وسوف تتم مساعدة فلسطين وسورية على الاندماج في شبكة البنية التحتية لمنطقة EMME، مما يؤدي إلى تعميق السلام وكذلك التنمية الاقتصادية، وستحصل بلدان الساحل على المساعدة في كسر عزلتها وافتقارها إلى الخدمات الأساسية من خلال شبكة من البنية التحتية للطرق والسكك الحديدية والموانئ والألياف والطاقة.
ثالثاً، سيتعاون صندوق السلام والتنمية مع تيارات تمويل أخرى، مثل مبادرة الحزام والطريق الصينية، والبوابة العالمية للاتحاد الأوروبي، والشراكة العالمية لمجموعة السبع للبنية التحتية والاستثمار، وزيادة الإقراض من قبل مؤسسات بريتون وودز وبنوك التنمية الإقليمية. وهذا أيضاً من شأنه أن يشكل مساهمة في تحقيق السلام، ليس فقط في مناطق الحرب اليوم، بل أيضاً بين القوى الكبرى في العالم.
جيفري دي ساكس
“أستاذ جامعة” ومدير مركز التنمية المستدامة لدى جامعة كولومبيا، حيث أدار معهد كوكب الأرض للفترة من 2002 إلى 2016. يشغل أيضاً منصب مدير شبكة حلول التنمية المستدامة، التابعة للأمم المتحدة، ومفوض لجنة النطاق العريض المعنية بالتنمية المستدامة. وقد عمل سابقاً بصفة مستشار لثلاثة أمناء عامين للأمم المتحدة، بما فيهم الأمين العام الحالي للمنظمة، أنطونيو غوتيريش. قضى البروفيسور ساكس أكثر من عشرين عاماً من مسيرته المهنية يدرّس في جامعة هارفارد، حيث حصل على شهادة البكالوريوس، والدكتوراه. كما يعدّ مؤلفاً للعديد من الكتب التي وصلت لقائمة الكتب الأكثر مبيعاً، آخرها بعنوان “نحو سياسة خارجية جديدة: ما وراء الاستثنائية الأمريكية” (صدر عام 2018). وقد دخل الدكتور جيفري ساكس مرتين قائمة مجلة “تايم” لأكثر مئة قائد عالميّ تأثيراً، وصنّف وفق مجلة “الإيكونيميست” بين أهم ثلاثة خبراء اقتصاديين تأثيراً على قيد الحياة.