ثقافةصحيفة البعث

أشلاء لوحات.. شاهد عيان عن زمن الحرب

لم يكن معرض الفنان التشكيلي محمود الجوابرة والذي افتُتح مؤخراً في مرسم فاتح المدرس بدمشق مجلس عزاء للوحات دُفنت تحت الأنقاض والتراب لمدة 8سنوات وعبثت بها الحرب والطبيعة ما عبثت، لكنه كان احتفاءً بلوحات نجا منها ما نجاوقد رفض الجوابرة تشييعها فلملم أشلاءها وأعاد إحياءها لتكون شهادة أخرى عن الحرب القاسية التي حاولت أن تدمر الحجر والبشر، ولتؤكد هذه اللوحات أن الجمال لابد أن يبقى، وأن الفن أقوى من الحرب.. ويبيّن الفنان عصام درويش مدير مرسم فاتح المدرس أن محمود الجوابرة فنان تشكيليّ له مكانة في الحركة التشكيلية السورية، وأعماله معروفة، لكن ما هو مختلف في هذا المعرض فكرته في أنه يضم أشلاء لوحاته التي تعرضت لكل أشكال التلف، وقد قدمها لتكون شهادة عن زمن الحرب على سورية وما تركتْه من آثار.

عبثية الحرب

ويشير الفنان محمود الجوابرة في تصريحه لـ “البعث” أنه في ذروة الحرب على سورية واشتداد المعارك في درعا اضطر في 20 شباط 2012 إلى المغادرة متوجهاً إلى دمشق خوفاً على عائلته من الإرهابيين، تاركاً في مرسمه هناك أكثر من 100 لوحة تلخّص مسيرته كفنان في الساحة الفنية التشكيلية منذ العام 1970 وبعد 8 سنوات قصده ليتفقد أحواله، فوجده مدمَّراً، ولوحاته أنقاض تحت التراب، مبيناً أنها لم تكن لوحات بل أشلاء قام بجمعها، وفي دمشق لم يرممها بل حاول إعادة تركيب بقاياها وبثّ الحياة فيها لتبقى شاهد عيان على عبثية ما فعلته الحرب فيها وقد غيّرت من مسارها البصري والفكري، فبعضها كان لوحات واقعية وبسيطة، ولكن بعد 8 سنوات أصبحت لوحات تجريدية بعد أن تركت الحرب بصماتها عليها، مؤكداً الجوابرة أن قيمتها اليوم بالنسبة له ليست مادية بل فكرية ومعنوية لأنها تمثل ذاكرة عبر لوحات بلغ عددها 26 لوحة كان قد رسمها في أزمنة مختلفة بدءاً من العام 1970 وهي تعبّر عن المراحل التي مرّ بها كفنان خلال 30 عاماً وعن رؤيته الخاصة التي تطبع كل أعماله ومفهومه الجوهريّ للفن والذي لم يعد يقتصر اليوم على المدارس الفنية المعروفة (واقعية-كلاسيكية-تجريدية) والتي غابت بعد العام 2000 حيث صار لكل فنان مدرسته الخاصة.

 

معرض سوريّ بامتياز

ويؤكد الفنان والناقد سعد القاسم أن فكرة المعرض مأساوية، فالفنان وبعد سنوات طويلة من الحرب يعود لمرسمه ليجد أضراراً كثيرة قد أصابته وأصابت اللوحات التي كانت فيه والتي تشبهنا وتشبه أشياء كثيرة تضررت في الحرب، ويرى القاسم أن من حظ الجوابرة أنه وجد شيئاً من أعماله واستطاع استعادة بعضها، إذ أن هناك فنانين خسروا كل شيء، مراسمهم ولوحاتهم، وكادوا أن يخسروا حياتهم، مبيناً أن هذا المعرض يجعل المتلقي يستعيد ذاكرته، وهو فرصة لمقارنة هذه اللوحات قبل الحرب وبعدها، خاصة وأن الفنان كان قد صوّرها قبل الحرب، والمعرض يكشف لنا حالتها بعد أن خاضت ويلات الحرب، والمفارقة برأيه أن تأثيرات الطبيعة من مطر ودخان وتراب ونار تركت تأثيراتها الجميلة من الناحية التشكيلية وكذلك من الناحية المعرفية، فكل لوحة من هذه اللوحات تعيد المتلقي إلى الأيام الصعبة السابقة التي عشناها وما زلنا وإن بأشكال مختلفة، مؤكداً أن المعرض له علاقة بزمننا ويومنا، وهو معرض سوري بامتياز وأكثر المعارض خلال الـ 10 سنوات الماضية ارتباطاً بالحدث السوري.

خسارة فادحة

ويؤسِف الفنان والناقد أكسم طلاع أن ما حصل لهذه اللوحات لم يكن بعيداً عما حصل في سورية، وهي شاهد عيان عن الحرب التي مرت من هنا، وآثارها ما زالت موجودة عليها، وأن الفنان لا يمكن أن يكون بعيداً عما يحصل، والجوابرة وضع نفسه شاهداً وهو أحد الذين تعرضوا لخسارات كثيرة، مبيناً طلاع أن الفن ليس حيادياً، ولا يمكن له ولا لأي متلقّ أن يرى لوحات المعرض القديمة والمتآكلة والتالفة وبجانبها كيف كانت قبل أن تعبث بها  الحرب إلا أن يقول أنظروا إلى هذه الخسارة الفادحة، مؤكداً أن ما قام به الفنان محمود الجوابرة يدل على أنه شخص معافى، يُنتج ليمنح أصدقاءه جمالاً وقد ضمد جراحه كما ضمد جراح لوحاته التي وإن فقدت رونقها وطزاجتها لكنها ظلّت محتفظة بتاريخها.

الجمال أقوى وأبقى

ويوضح الفنان موفق مخول أن الجوابرة فنان مهم في حياتنا التشكيلية وله بصمة واضحة، وتتميز أعماله بالمعاصرة والحداثة، وهو يمتلك ذكاءً بصرياً، أما معرضه فله نكهة خاصة برأيه، فاللوحات التي فيه تعرضت لما تعرض له كل سوري في الحرب على بلده، وهذا يعني أن اللوحة كانت جزءاً من الحرب، مستهدَفة بفكرها وجمالها لأن الحرب لم تكن حرباً عادية بل حرب ثقافة وفكر وفن، وقد أثبت الفن برأيه من خلال هذا المعرض أنه الأقوى، منوهاً إلى أن الفن التشكيلي علامة من علامات وجود الإنسان وبيئته، واللوحة بالنسبة للفنان ليست مجرد لون بل هي فكر وتاريخ وذاكرة وردّة فعل وموقف، لذلك وفي هذه الظروف التي نعيشها لا حضور لأي فنان إلا بحضوره الثقافي والإنساني والفكري، واللوحة لوحدها لا قيمة لها، والدليل هو أن كل الفنانين العالميين حققوا شهرة كبيرة من خلال فكرهم وعقلهم وفلسفتهم ولوحتهم التي تحمل رسالة، لذلك فإن معرض محمود الجوابرة برأيه يؤكد أن الجمال أقوى وأبقى، واللوحة هوية بصرية وجمالية ووطنية، والعمل التشكيلي أقوى من أي شيء لأن بينه وبين الزمن صداقة، فهو الذي يعطيها حضورها وقيمتها، لذلك يرحل الفنان وتبقى لوحته.

سرديات الخوف

يُذكر أن محمود الجوابرة تخرج عام 1972 من معهد الفنون الجميلة، وأقام في بداياته العديد من المعارض الفردية في درعا، وفي العام 1982 دعاه مدير مهرجان دول البحر الأبيض المتوسط لإقامة معرض في مدينة كونفيرسانو الإيطالية، وساهم مع زملاء له بتأسيس مركز الفنون التشكيلية ونقابة الفنون الجميلة في درعا عام 1980 وفي فترة الحرب على سورية أقام معرضاً فردياً عام2018 تحت عنوان “ليل العالم” في غاليري آرت هاوس بدمشق ضمن مجموعتين، الأولى بعنوان “شاهد على العصر” والثانية “ليل العالم” وهما نتاج أربعة أعوام من رحم الحرب على سورية، وفي العام 2022 أقام معرضاً بعنوان “سرديات الخوف” في صالة عشتار للفنون الجميلة، وهو أحد أبرز النقابين في اتحاد الفنانين التشكيليين.

القسم الثقافي