متلازمة الحروب والمناخ
هيفاء علي
لا يقتصر تأثير الحروب والصراعات في العالم على البشر والمعدات العسكرية والأبنية فحسب، بل تستهدف الطبيعة أيضاً، وتهدّد التوازن البيئي والحياة البرية، كما أن تأثير الأسلحة والمواد الكيماوية المستخدمة، يستمر في الطبيعة، رغم مرور عشرات السنوات على النزاعات.
ووفقاً للمعلومات المتوفرة في العديد من التقارير الصادرة عن عدة مؤسّسات أهلية، ومن دراسات علمية، فإن الاستثمارات والمنشآت والتدريبات العسكرية تؤثر أيضاً على الطبيعة بقدر تأثير الحروب، فهناك منشآت عسكرية على مساحة 1 إلى 6 في المئة من اليابسة والبحار في كلّ العالم، وفي تلك الأماكن يتمّ استخدام مصادر الطاقة والمعادن والمياه بكثرة، كما يؤدي بقاء الجنود في حالة التأهب دائماً إلى إنتاج كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون.
ويؤدي استهلاك كميات كبيرة من الطاقة لإبقاء المعدات العسكرية والسفن والطائرات في حالة الاستعداد دائماً في بعض المنشآت العسكرية، إلى إنتاج كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون تفوق إجمالي الكميات التي تنبعث في دول بأكملها.
كما أن وجود المنشآت العسكرية المبنية في أماكن ذات أهمية إستراتيجية عادة ما تؤسّس في مساحات مهمّة من الناحية البيئية والحيوية، إضافة إلى أن المخلفات الكيميائية الناتجة عن تلك المنشآت والتلوث الضوضائي يضران بالحياة الطبيعية وخاصة الحياة في البحار.
وقد أدّى تحول القواعد العسكرية والمنشآت العسكرية إلى أهداف خلال الاشتباكات، إلى زيادة التهديد للحياة الطبيعية في محيط تلك المنشآت التي تضرّ البيئة بالفعل، من خلال المخلفات الكيميائية والتلوث الضوضائي وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
وخلال حرب فيتنام واصلت الولايات المتحدة إرسال الجنود إلى فيتنام للمشاركة في الحرب لمدة 10 سنوات، وكانت تلك الفترة أيضاً حرباً بين الولايات المتحدة والطبيعة، إذ تمتاز فيتنام بغطاء نباتي كثيف كان يساعد في اختباء المقاتلين الفيتناميين، ولذلك نفّذت الولايات المتحدة عمليات عسكرية في هذه الأماكن واستخدمت أسلحة ومبيدات كيميائية لتجفيف النباتات والأشجار ومنع اختباء الجنود بها.
في السياق، يذكر كتاب “تاريخ الطبيعة في فيتنام” أن الجيش الأمريكي استخدم نحو 20 مليون غالون من المبيدات الكيميائية فيما بين عامي 1961-1971 للقضاء على الغابات التي كان يختبئ بها مقاتلو الفيتكونغ. وحتى الآن لم يعد الغطاء النباتي إلى حالته القديمة في الدول التي استخدم فيها الجيش الأمريكي المواد الكيماوية لتنظيف محيط قواعده العسكرية. كما أن حشائش ألانغ- ألانغ التي ظهرت بسبب تأثير المواد الكيماوية المستخدمة والمعروفة باسم العشب الأمريكي، لا تزال تضرّ بالمناطق التي تتواجد بها، وتسبّبت هذه المواد إضافة إلى 14 طناً من الأسلحة الكيميائية والقنابل في إحداث 10 إلى 15 مليون فوهة بركانية، وفتحات في الأرض، لا زالت موجودة حتى اليوم.
إضافة إلى أن الغابات التي جفّت والأنهار والجداول التي تلوثت مياهها بالمواد الكيميائية، تسبّبت بتشوهات جينية في الطيور وبعض الثدييات في المناطق المجاورة لتلك المناطق. ولا زالت التشوهات الجينية مستمرة لدى 24 نوعاً من الطيور و5 أنواع من الثدييات في المناطق التي تمّ تجفيفها بالمواد الكيميائية، إضافة إلى 170 نوعاً من الطيور، و55 نوعاً من الثدييات في الغابات العذراء.
تأثير القنبلة الذرية لا يزال مستمراً في الطبيعة
وبالإضافة إلى التلوث الضوضائي والبيئي في المدن التي تجري بها الحروب، يتسبّب نزوح البشر وإقامتهم في مخيمات اللاجئين بأضرار للبيئة. ولا تزال آثار القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا على هيروشيما وناغازاكي في اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية، وضررهما على البيئة مستمراً حتى اليوم، إضافة إلى عشرات الآلاف من الأرواح التي حصدتها القنبلتان في غضون ثوانٍ معدودة.
فخلال أول عشر ثوانٍ تسبّبت القنبلتان بمقتل أكثر من 70 ألف شخص في هيروشيما، وأكثر من 35 ألف شخص في ناغازاكي، كما أدّت الحرارة العالية جداً الناتجة عن القنبلة والتي وصلت إلى 4 آلاف درجة مئوية، إلى القضاء على النباتات والحياة الطبيعية تماماً. وأحرقت الطاقة الناتجة عقب الانفجار كلّ الأبنية والأماكن الطبيعية والبشر في مساحة 2 كيلومتر مربع، كما لا يزال تأثير الجزيئات الذرية التي انتشرت في الغلاف الجوي يظهر في المياه بالمنطقة حتى يومنا هذا، وتسبّب الإشعاع الذي سبّبته القنبلة الذرية في طفرات جينية في الحيوانات والبشر.
“داعش” يلوث الهواء والتربة في سورية
مع سيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي على بعض آبار ومصافي النفط في سورية وقيامه ببيع منتجاتها في السوق السوداء، فإن العديد من حقول النفط أصبحت غير قابلة للاستخدام مرة أخرى بسبب هذه العمليات. كما أن قيام التنظيم باستخراج النفط بطريقة غير مناسبة تسبّب بتسمم الحيوانات بسبب الدخان المنبعث، بينما يؤدي التسريب إلى تلويث التربة، كذلك تمّ استهداف العديد من محطات الطاقة ومصافي النفط ما تسبّب بحدوث انقطاع متكرّر للكهرباء.
المناخ والحرب على غزة
كذلك تُعدّ الحرب الإسرائيلية على غزة تحدياً معقداً ليس فقط من الناحية السياسية والإنسانية، بل أيضاً فيما يتعلق بتأثيراتها على الاستدامة البيئية والانتقال إلى الطاقة الخضراء. في عالم يزداد وعياً بالحاجة الملحة لمواجهة تغيّر المناخ، يثير هذا النزاع تساؤلات حرجة حول كيفية تأثير الحروب والتوترات الجيوسياسية على جهود الحفاظ على البيئة وتبني مصادر الطاقة المتجدّدة. فبالإضافة إلى الخسائر البشرية، تستهلك الحرب الكثير من الموارد وغالباً ما ينتج عنها أضرار بيئية كبيرة. تشمل تكلفة العمليات العسكرية البيئية، تدمير البنية التحتية، والاضطرابات الناجمة عنها في مشاريع وسياسات الطاقة الخضراء، وهي جوانب لا يمكن تجاهلها عند النظر في التأثير الأوسع للحروب.
وفي هذا السياق، يقول خبراء البيئة والطاقة النظيفة إن الحرب ستؤثر على بعض المفاوضات القائمة في قطاع المناخ عالمياً، حيث يعتبر الملف الوطني ذا أولوية لدى الحكومات خلال أوقات الأزمات، مما يعني أن بعض الدول قد تضع أهداف إزالة الكربون جانباً. كما يتوقعون أنه قد يتمّ فقدان بعض الزخم الإيجابي، وسوف يتأخر الاستثمار المتعلق بالمناخ تجاه البلدان الضعيفة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وعلى الرغم من ذلك يرى أنه لا يمكن إيقاف التحول الشامل نحو “النمو الأخضر” أو إبطائه بشكل كبير.
أكبر تهديد للانتقال إلى الطاقة الخضراء
في المقابل، واستناداً إلى الحرب الروسية الأوكرانية، يعتبر الخبراء أنه يمكن للحروب أن تسرّع التحول إلى صافي انبعاثات صفرية، من أجل أن تصبح الدول أكثر أمناً في مجال الطاقة وأقل اعتماداً على الجهات الفاعلة غير المستقرة في إمدادات الطاقة، وهو تحديداً ما قامت به أوروبا والتي كانت تعتمد على روسيا بشكل كبير لإمدادها بالطاقة.
رغم أن الدول المنخرطة في الحرب حالياً لا تعتبر من بين الدول المنتجة للنفط مما يعني أنه من غير المرجّح أن تؤثر الحرب على إمدادات النفط على المدى القصير، إلا أنه بحال توسع نطاق الحرب لتصبح أزمة إقليمية، فقد يشهد العالم المزيد من التقلبات في أسعار النفط والضغط التصاعدي نحو 100 دولار للبرميل أو حتى أعلى.
وفي حال حدوث هذا الأمر، فإن الأسعار المرتفعة ستؤدي إلى المزيد من عمليات التنقيب عن النفط والغاز في جميع أنحاء العالم، مع اندفاع شركات الوقود الأحفوري للاستفادة منها. وسيؤدي ذلك إلى زيادة وفرة النفط وبأسعار معقولة مرة أخرى مما يؤدي إلى زيادة الطلب على النفط، مما قد يؤدي إلى تباطؤ الطلب نحو حركة “صافي الانبعاثات الصفرية”.
ويعتبر الخبراء أن أكبر تهديد “للتحول الأخضر” هو تقلب أسعار النفط، حيث إن التأرجح في الأسعار يمنع العديد من المستثمرين البيئيين والاجتماعيين المؤسّسيين من التوجّه إلى تسويق مشاريع الطاقة المتجدّدة.
ومن المرجّح أن يؤدي الصراع المستمر في فلسطين المحتلة على غرار الحرب في أوكرانيا، إلى تسريع وليس إبطاء التحول العالمي بعيداً عن الوقود الأحفوري، ونحو التكنولوجيات النظيفة مثل الطاقة الشمسية والهيدروجين الأخضر والمركبات الكهربائية.
ومع ذلك، فمن أجل الوفاء باتفاقيات باريس للمناخ، والحدّ من ارتفاع درجات الحرارة إلى أقل من درجتين مئويتين بحلول نهاية القرن، يحتاج العالم إلى الوصول إلى 4 تريليونات دولار من الاستثمار في الطاقة النظيفة بحلول عام 2030 بدلاً من الاستثمار الحالي البالغ 2 تريليون دولار سنوياً.
وتوقع الخبراء أن تؤدي زيادة التقلبات المناخية وموجات الحرارة والأمطار الغزيرة إلى زيادة شدة وتواتر المخاطر الطبيعية مثل الفيضانات وحرائق الغابات وارتفاع مستوى سطح البحر والجفاف، وبالتالي انقطاع إمدادات النفط والغاز، مشيرين إلى أن 30% من احتياطيات النفط والغاز العالمية معرضة “لخطر كبير” بسبب اضطراب المناخ، مما يحفز بشكل متزايد إنشاء نظام طاقة متجدّد ومحلي أكثر.
اتفاقيات الأمم المتحدة تحظر الإضرار بالطبيعة أثناء الحروب
تشير قرارات الأمم المتحدة إلى أن الطبيعة هي تراث إنساني مشترك ويجب حمايتها في كل الفترات بما في ذلك زمن الحروب. ويدخل في نطاق ذلك عمليات تشكيل الغيوم التي تتمّ لمنع الطائرات من رؤية أهدافها، أو منع الدفاعات الأرضية من رؤية الطائرات المحلقة.
وأوضحت دراسات أجرتها اللجنة الدولية للتغيرات المناخية، أن هذه الطرق المتعمدة لتغيير المناخ تؤثر سلبياً على البحيرات الجليدية خاصة وعلى بعض أنواع الثدييات.
وأشارت إلى أن مادة يوديد الفضة المستخدمة في هذه العمليات تسبب إعياءً مؤقتاً لدى بعض الكائنات الحية إضافة إلى مشكلات صحية دائمة.
كما تحظر الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة لتغيّر المناخ الإضرار بالطبيعة أثناء الحروب كتطبيق حربي، كما تمنع الاتفاقية استخدام مبيدات الأعشاب أثناء الاشتباكات لتجفيف النباتات والأشجار، حيث لا يزال مبيد العميل البرتقالي الذي استخدمته الولايات المتحدة في حرب فيتنام يسبّب تشوهات في العضلات والعظام، إضافة إلى تشوهات خلقية لدى المواليد الجدد في فيتنام حتى الآن.