سمر تغلبي: قليل من الحبّ.. كثير من السّراب
نجوى صليبه
منذ فترة غير قصيرة، أجرينا استطلاعاً حول تأثير انقطاع التّيار الكهربائي على الكتابة، سواء أكانت روايةً أم قصيداً أو قصّة، وها نحن، اليوم، نحصل على رأي آخر وكما يقال “على البارد المستريح” تقول سمر تغلبي في قصيدتها “الشّعر والكهرباء”:
هنا قلمي.. هنا حاسوبي المُطفأ.. وأفكاري يراودها.. نحول الحرف في الكلم.. ويكتبها دمي الأدفأ.
إلى قولها:
/تذوب الشّمعة الصّماء في حبّ.. تميل بها ذبالتها.. وتنطفئ.. يسيل العتم من أرجائها.. يطفو.. ويجترئ.. فعذراً شمعتي الثّكلى.. فعذري أنّي الظّمئ.. بحور الشّعر تطلبني.. وعتم الدّرب ينكفئ.. فيغدو الشّعر أمنية/.
بهذه القصيدة أنهت تغلبي مجموعتها الشّعرية الأخيرة التي حملت العنوان ذاته “قليل من الحبّ.. كثير من السّراب” والصّادرة عن الهيئة العامّة السّورية للكتاب سلسلة الشّعر 2023، لكنّا أردنا البدء فيها لمناسبتها الوضع الحالي الذي نعيشه، إذ نعاني انقطاعاً شبه دائم للتّيار الكهربائي، ما يؤثّر على النّتاج الأدبي عموماً، وفي المقابل يدحض ما يسوّق له بعض مستسهلي الشّعر الذين يقولون إنّه ليس على الشّعر مواكبة الوضع العام، وليس علينا أن نحمّله أكثر ممّا يحتمل.
وتتابع تغلبي في “لا شيء يغري بالكتابة” ما بدأته في قصيدتها السّابقة، لكنّها هذه المرّة لا تحمّل الذّنب كلّه على التّيار الكهربائي وحده، بل هناك مسبّبات أخرى، منها الحرب وآلياتها التي هدّدت حياتنا مراراً وتكراراً، ونعيش اليوم تبعاتها ونعانيها، تقول:
/لا شيء يغري بالكتابة.. هكذا صاح اليراع.. معانداً حرفاً يورق مضجعي.. لا يا يراعي.. لن تهابه.. الشّعر يغلي في دمي.. يختال فوق مواجعي.. ليذود عن قلبي الكآبة/..
إلى قولها: /هيا امتلئ حبراً.. ولا تحفل بما يجتاحني.. ويلوح في الآفاق.. من وجع الحكاية إذ يدوّي.. كالحنين المستباح.. ولا تفكّر.. بالرّصاصة والقذيفة والجراح.. ولا تراود خافقاً.. قد أنهكته رؤى الصّباح.. غرّدْ هنا/.
ولا يقف تأثير الحرب على العمل وجودته بغضّ النّظر عن نوعه، بل إنّ آلته أصابت الرّوح بجروح بعضها لمّا يندمل، وتركت شظاياها في اللغة دماءً ودماراً، تقول تغلبي تحت عنوان “حطام حكاية”: /أنا قهر عمر.. يستبيح دمي نِداه.. في غُصّة الكون الذي.. ما زال أضيق من مداه/.
إلى قولها: /نم يا فؤادي.. إنّ شوق النّبض للنّبض انكسر.. والبقايا من حكايا الحبّ.. أدمى طُهرها همس الصّور.. والعمر.. في فصل الجنون.. مباغت.. كالبرق يسرقه المطر.. كن يا فؤادي.. كالحكايا مثقلاً.. بالأمنيات الهائمات.. بلا حذر.. لكن ترفّق.. حين يرميها النّوى.. بالأحجيات.. وعد لنومك.. لا تعر نبضاً شغوفاً للمدى.. واحذر.. بأن تهوى بلا وجل/.
آلام وأوجاع تقضّ المضاجع، وتقلب الليل نهاراً والنّهار ليلاً، تختار لها الشّاعرة من الألفاظ ما يعطيها حقّها من القسوة والقوّة، فليلها صار طويلاً والمعاني “تنقر الرّأس”.. لنتخيل معاً ما تقوله في “حديث الليل”: /ليلي طويل.. والمعاني تنقر الرّأس العنيد.. فلا يساوره المنام.. في السّقف.. تجتمع العيون من المطارح كلّها.. من كلّ أزمنة الشّقاء.. وكلّ أضرحة الرّخاء.. ترنو إليّ كما المواجع تصطليني.. تشعل الجمر بطيني.. تقتفيني/.
وكما أنّ “الغريق يتعلّق بقشة”، يتعلّق المحبّ بالوهم، وكأنّي بالشّاعرة تقول نحن لسنا محكومين بالأمل فحسب، بل بالوهم أيضاً، تقول في “ومضة من مستحيل”: /يا.. لست لي.. دع كلّ أحلام الهوى.. ثمّ استعر.. منّي صقيعي في الليالي الباردة.. واترك ولو وهماً.. ظلال محبّةٍ.. تروي بريق الوجد.. في تلك العيون الشّاردة/.
الباحث عن قصّة سعيدة في هذه المجموعة، كالباحث عن “إبرة في كومة قش”، فها هي الشّاعرة توهمنا في قصيدتها “فينيق” بأنّها مغرمة و”غرقانة” في الحبّ حتّى “أذنيها”، وقلبها يغفو بسلام وطمأنينة، ثمّ “تخبط” كفّها على الطاولة لتوقظنا من وهم جميل.. تقول: /نعم.. أعشق الفجر في مقلتيك.. وأنت تدغدغ عينيّ.. بالنّظرة الحانيه.. وأعشق كلّ الدّروب.. التي ترتجيها.. لقاءً حميماً.. على حافة الهاويه/.
ثمّ تقول: /لماذا توحّدت بي؟.. وأحرقت كلّ الزّهور على مشجبي.. وزوّرت تاريخ قلب كسير.. ينسى الحياة بدون انتماء إليك.. وأطلقت فينيق روحي.. ومن ثمّ.. أمسكتها بين كلتا يديك/.
توظّف تغلبي ما تلتقطه عيناها من صور في الطّبيعة بما يخدم صور الرّوح، فها هي تقول في وداع “تشرين” واستقبال آخر: /تشرين يرحل والمدى طلق.. هل من ندى يستافُه أفق.. هو ذا ربيع في الخريف إذا.. ما أعجلته الريح ينشقُّ.. يرنو لأصفر جاء معتذراً .. لولا الفصول لما أتى برق.. ليجيء ثانيه على عجل.. يهمي بماء كلّه شوق.. والأرض تجري في مناكبنا.. والمستقرّ المنتهى شرق.. ما كان يذرو الحبّ أوّله.. فرحيله من ذنبنا عتق/.
وفي “حقول ووله” تستذكر والدتها الرّاحلة فتقول: /كم أغبط التّرب الذي.. ضمّ النّقاء.. وأنبت الجسد الطّري قرنفلة.. ومواكب الأشواق ترسمها أسىً.. وتذيب نهدات الصّدور المقفلة.. في بعدها كلّ الأماني أدبرت.. من دونها باتت مناي مؤجّلة/.
لا مكان ولا زمان ولا أسماء واضحة إلّا الرّوح ودقات القلب وعبرات الحسرات، وكأنّ تغلبي أتقنت الوهم ولم تألفه فقط كما تقول في قصيدتها “ألفت توهّمي”: /تداعب جفني الأحلام يوماً.. ويوماً تختفي فيثور جفني.. ويسكب ماء عيني فيه جوداً.. ويحفر وجنتيّ بملح مزني.. ألفت توهّمي حتّى يقيناً.. حسبت العمر فيه محض ظنّ/.
“المكتوب مبيّن من عنوانه” مثل شعبي يحضر فور قراءة العنوان، وعلى مبدأ “ليس كلّ ما يلمع ذهباً” قلنا ليس بالضّرورة أن تكون كلّ القصائد حزينة، لكن هذا ما لم يكن، فعلى خلاف مجموعاتها السّابقة، تضعنا سمر تغلبي مباشرة في صورة ما يغلفه عنوانها الطّويل الذي يفرض هالته على عشرين قصيدة، موزّعة على ثلاث وتسعين صفحة، قاطعاً الطّريق أمام دهشة ومفاجأة ينتظرها قارئ ما يزال يبحث عن كلّ جديد، وكأنّي بها تقول: “هذا أنا.. هكذا أريد أن تكون مجموعتي الشّعرية من القلب إلى القلب.. من الوهم إلى الوهم”، والملفت أيضاً أنّها في الإهداء تقول: “إليّ قبل عمر وقهر”، ربّما هي المعرفة الحقيقية التي يصل إليها الإنسان بعد عمر من الصّدمات والتّجارب والخبرات الحياتية، معرفة أنّه كان عليه إسعاد روحه قبل أرواح الجميع، واكتشاف أنّ عطاء كثيراً كان في غير مكانه.. إذاً هي الحكمة التي تصلنا في ختام مرحلة عمرية ما، كيف لا وهي التي تقول في “فصول العمر”: /أعدني إليّ فإنّي هرمت.. وإنّي هزمت.. وإنّي من العمر يوماً هربت.. ورحت أداري بحمقٍ صداه.. وأرسم لوني الوحيد لظلّ حياة.. غدت كالممات/.