دراساتصحيفة البعث

سلخ لواء اسكندرون.. جريمة لن تسقط بالتقادم

د. معن منيف سليمان

تعدّ جريمة سلخ لواء اسكندرون السوري السليب عن وطنه الأم سورية قضية ماثلة في ذاكرة الأجيال ووجدانهم كأرض عربية سورية محتلّة لا بدّ أن تعود إلى أصحابها مهما طال الزمن، وأن حقهم باللواء لا يسقط بالتقادم.

تقع منطقة لواء اسكندرون في الجزء الشمالي الغربي من سورية بحدودها الحالية، وتمتدّ على مساحة 4800 كيلومتر مربع، وتطلّ على البحر المتوسط من جهة الغرب، وسهول كيليكيا وجبال طوروس من الشمال، واللاذقية وجبل الأقرع من الجنوب.

ويقع لواء اسكندرون بين أربعة جبال هي: الأمانوس، والأقرع، وموسى، والنفاخ، ينبسط سهل العمق الخصب، الذي تجري فيه أنهارٌ عذبة هي: العاصي الذي يمرّ بمدينة أنطاكيا ثم يمضي إلى خليج السويدية، ونهر الأسود للقادم من كيليكيا، ونهر عفرين للقادم من حلب. ويتوزّع سكان اللواء على مدن وقرى، أبرزها السويدية، والريحانية، وحربيات، واسكندرون، وأنطاكيا، وأرسوز.

ويتمتّع لواء اسكندرون بموقع جغرافي مهمّ، حيث يتحكّم بمضيق “بوابة سورية” الذي يسيطر على الطريق الساحلية المتجهة إلى كيليكيا، وبمضيق “بيلان” الذي يسيطر على الطريق المؤدية إلى سورية الداخلية. ويمتلك اللواء ثاني مرافئ بلاد الشام بعد بيروت، من حيث الأهمية. ويعدّ اللواء من أجمل وأغنى مناطق سورية بثرواته الطبيعية والباطنية وحقوله الزراعية ومناطقه السياحية ومواقعه الأثرية مثل: قلعة بانياس، والسوق الطويل، وشجرة موسى، وباب الحديد.

في مرحلة الحكم العثماني كان اللواء يتبع ولاية حلب، وقد احتوت مراسلات حسين ـ مكماهون على إشارات واضحة بتبعيته إلى الدولة العربية الموعودة. وكان لواء اسكندرون في اتفاقية سايكس ـ بيكو داخل المنطقة الزرقاء التابعة للاحتلال الفرنسي، بمعنى أن المعاهدة عدّته أرضاً سورية. وفي معاهدة سيفر عام 1920، اعترفت السلطة العثمانية بعروبة منطقتي الاسكندرون وكيليكيا وأضنة ومرسين وارتباطهما بالبلاد العربية. وبعد توحيد الدويلات السورية التي شكلها الاحتلال الفرنسي، ضم لواء اسكندرون إلى السلطة السورية المركزية.

كما يرتبط لواء اسكندرون عضوياً بجغرافية سورية الطبيعية، حيث تتشابه التضاريس بين منطقة اللاذقية وطرطوس ومنطقة اسكندرون، فضلاً عن علاقات النسب وصلات القربى بين منطقة حلب السورية وهذه المنطقة.

ولكن تركيا استغلّت اندلاع الحرب العالمية الثانية في الأول من أيلول عام 1939، والوضع القائم في أوروبا، وحاجة الحلفاء إلى ضمّها إليهم أو إبقائها على الحياد، وخصوصاً أنها بعد معاهدة مونترو التي عقدت في الـ20 من تموز 1939، أصبحت تسيطر على المضائق في زمن الحرب فأعلنت ضمّ اللواء نهائياً إليها.

ووفق اتفاق سري عام 1938 كُشف لاحقاً، سلخت قوات الاحتلال التركية لواء اسكندرون بعد مؤامرة مع فرنسا التي تعهّدت بضمان أغلبية تركية في مجلس اللواء، بعد أن حقّق السوريون في اسكندرون وقرق خان وأنطاكيا تفوّقاً على الأتراك في عدد الناخبين المسجلين، وذلك كلّه في ظلّ تغاضي اللجنة التي أرسلتها عصبة الأمم المتحدة إلى اللواء، عن التزوير المفضوح في لجنة الإشراف على الانتخابات فيه وإلغاء قيود آلاف الناخبين السوريين.

عقد مجلس اللواء المزوّر جلسته الأولى وانتخب رئيساً له وشكل وزارة من الأتراك، لتبدأ مرحلة تتريك شملت كل شيء في اللواء، بدءاً باسمه الذي أصبح “هاتاي” ولم ينتهِ بتهجير السوريين، والعبث بهويته الديمغرافية وإلغاء التعليم باللغة العربية، وإلغاء كل المعاملات الحكومية بها، وتبني الليرة التركية عملةً رسمية، بما يخالف نظام عصبة الأمم التي لم يحظَ سلخ اللواء باعترافها، ولا باعتراف خليفتها منظمة الأمم المتحدة.

وهكذا سلب لواء اسكندرون عام 1939 ونهبت ثرواته، بعد تزوير الحقائق والوقائع بموجب اتفاق ثلاثي بين تركيا والاحتلالين الفرنسي والبريطاني آنذاك، وجرى كنوعٍ من الرشوة في مقابل وقوف تركيا إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

وعلى الرغم من كل الإجراءات التعسفية التي يتبعها الاحتلال التركي لطمس الهوية العربية السورية فإنها لم تحُل دون تفاعل السوريين في لواء اسكندرون مع أحداث الوطن الأم والوقوف إلى جانب شعبهم في حربه ضدّ الإرهاب. فقد اتّخذ أهالي لواء اسكندرون موقفاً واضحاً من الحرب على سورية، تمثّل في رفض السياسة الخارجية التركية، ورفض استخدام المنطقة طريقاً لمرور السلاح والجماعات الإرهابية المسلّحة، فاعترضوا كثيراً من سيارات الإسعاف التي كانت تهرّب السلاح عبر الحدود، وخرجوا بتظاهرات حاشدة جدّاً رفضاً للحرب على سورية.

واليوم كما بالأمس، وعلى الرغم من كلّ ما قامت وتقوم به السلطات التركية لفرض سياسات التمييز الثقافي واللغوي والعرقي ضدّ السكان السوريين من أبناء اللواء واضطهادهم والتضييق عليهم، يصرّ السوريون أبناء اللواء السليب على ارتباطهم بوطنهم الأم سورية، وانتمائهم له، ويؤكّدون في كل مناسبة أن لواء اسكندرون سيبقى سورياً للأبد، وسيبقى ماثلاً في ذاكرة الأجيال حتى عودته إلى الوطن الأم سورية، وهو حتماً سيعود مهما طال الزمن، ولن يسقط بالتقادم ما دام هناك وراءه مطالب.