خبرات عالية الجودة مجمّدة بقرار حكم السن! دعوات لإنشاء هيئة وطنية للمتقاعدين
البعث الأسبوعية – غسان فطوم
بين الرغبة بالتقاعد المبكر وحمّى تقديم الاستقالات الناشطة هذه الأيام، والدعوة لتمديد العمر الوظيفي في بعض القطاعات، هناك من يدعو لاستثمار خبرات المتقاعدين الذين أحيلوا للمعاش بعد /60/ عاماً من العمل، علماً أنهم قادرون على العمل سنوات أخرى وبالجودة نفسها، من منطلق أن “الحياة تبدأ بعد الستين” حسب قول ورأي بعض المتقاعدين الذي كانوا في مواقع مسؤولية كبيرة.
للأمانة الطرح فيه وجهة نظر جديرة بالاهتمام وخاصة عندما يجبرنا القانون على تنفيذ أحكامه، رغم إدراكنا للخسارة الفادحة التي تمنى بها هذه المؤسسة أو تلك بحكم السن الوظيفي المحدّد بقانون العمل.
كنز وطني
الخبير والاستشاري الاقتصادي شادي أحمد الذي أعدّ منذ سنوات مسوّدة مشروع لـ(الهيئة الوطنية السورية للمتقاعدين)، أشار إلى وجود دراسة حكومية للتعاقد مع المتقاعدين تقوم على فكرة توزيع استثمارات من النقابات المتخصصة يمكن أن يملأها المتقاعد الراغب بالعمل في الشأن العام بعد التأكد من الحالة الصحية التي تمكّنه من القيام بدوره.
وبرأي الخبير أحمد أن سياسة (المسار الوظيفي) أنهت الحياة الوظيفية لمئات الكفاءات الإدارية السورية حتى قبل بلوغهم سن التقاعد، وهذا يمثل خسارة كبيرة للوطن، مشيراً إلى ما تقوم به الحكومات والدول بالاستفادة القصوى من المتقاعدين القادرين بخبرتهم الطويلة على تقديم الحلول البديلة لمشكلاتنا وتحقيق المكاسب بالارتقاء بجودة العمل.
ويأسف الخبير الاقتصادي لحال أغلب المتقاعدين من مؤسساتنا الحكومية، فهم باتوا من رواد المقاهي، أو يعملون في أعمال لا تناسب خبراتهم الكبيرة وبأجور شحيحة، أو أنهم يعيشون العزلة المرّة في المنزل، مؤكداً أهمية أن تعمل الحكومة على حفظ ورعاية هذا الكنز الوطني والاستفادة منه من خلال استثمار خبرات المتقاعدين المدنيين والعسكريين في مؤسسات وهيئات حكومية أو شبه حكومية أو مؤسسات ومراكز أبحاث خاصة تقام خصيصاً لهم وتوزيعهم ضمن لجان فنية وعلمية وإدارية وثقافية ضمن برنامج من الأنشطة والفعاليات المختلفة.
أمر مؤلم
ويشير الإعلامي أيمن فلحوط إلى وجود شريحة غير مؤمنة بخبرة المتقاعدين، ومع أن سنة الحياة تقتضي ذلك، لكن التغافل عن شريحة المتقاعدين -الكنز الوطني- أمر مؤلم، فهم يمتلكون الخبرة المهنية عبر عقود من الزمن، وخاصة الكفاءات العلمية العالية في مختلف مجالات العمل بالقطاعين العام والخاص، لذا يفترض الاستفادة منها، عبر آليات معينة لاستقطابها، وتوظيف خبرتها وتجربتها الحياتية، واستثمارها بالشكل الأمثل في مساعدة الأجيال الناشئة، لكي لا تتحوّل إلى عبء وبطالة مقنّعة.
وبالقياس إلى رجال الكلمة “معشر الصحفيين”، نرى أن اللافت بالأمر -حسب فلحوط- أن جلّ المؤسسات الإعلامية الرسمية، تعيش الآن في حالة عوز، وتفتقر للكفاءات التي تقاعدت في السنوات الأخيرة، وكانت الركن الذي ترتكز عليه في كل المناسبات، وحين يتقاعد أي زميل يحار المعنيون في سدّ الفراغ الذي تركه المتقاعد.
وبرأيه أن شريحة المتقاعدين، لا تقل شأناً وأهمية عن شريحة الشباب، وتعدّ أحد ركائز التنمية في المجتمعات، ما يحتم علينا عدم إهدار تلك الطاقات، وضرورة العمل على إنشاء هيئة خاصة للمتقاعدين للاستفادة من تلك الخبرات في قطاعات العمل المختلفة.
منطق خاطئ
يرى الدكتور جميل علي أن هناك منطقاً خاطئاً يروّج له الكثير من المشرّعين ورجال القانون بأن التقاعد هو مرحلة من العمر يفقد فيها المرء القدرة على العطاء والإنتاج والتجدّد، وبرأيه هذا إجحاف وظلم بحق المتقاعدين بل بحق الدولة نفسها لأنها تخسر خيرة خبراتها التي بأمس الحاجة إليها بعد أن بلغوا من النضج وسعة المعرفة وعناصر التحكم والقيادة ما تحتاج إليه المؤسسات لتطوير أعمالها وتصحيح مساراتها وتحديد برامج عملها وسدّ ثغرات نواقصها، موضحاً أن هذا الأمر لا ينطبق على جميع العاملين ولكنه يشمل مجموعة متميزة ليست قليلة العدد، ولافتاً إلى أن المتقاعد يخطئ إذا اعتبر أن تقاعده هو نهاية مسيرة عمل وعطاء، فربما العكس هو الصحيح، فكثير منا لم يختاروا العمل الذي أسند إليهم بمحض إرادتهم ولكنهم مارسوه وقد يكونون أبدعوا فيه، لذلك فالتقاعد يتيح لهم الفرصة ليعودوا إلى أنفسهم ويستنهضوا هممهم وينطلقوا دون قيود الواجب الوظيفي والعمل المثمر في المجال الذي يناسبهم، وبالتأكيد ستكون الحصيلة أبهى وأرقى، وقال الدكتور علي: إن الخبرة التراكمية العظيمة التي يمتلكها المتقاعدون تحقق التوازن في العمل عندما يصبح هناك مزيج بين الدماء الشابة والخبرات العتيقة، لذا المفروض العمل على توفير مستلزمات الأعمال والمشاريع التي يمكن للمتقاعد الإبداع فيها.
عملة نادرة
الاستشاري فراس شحادة (تطوير أعمال وإدارة الاستثمار) طالب بإعادة النظر بسن التقاعد والحفاظ على الخبرات والكفاءات الوطنية التي باتت عملة نادرة، وخاصة في الاختصاصات التي نحتاج إليها حالياً وفي مرحلة إعادة الإعمار في ظل شح الخبرات بعد موجة الهجرة التي استنفدت خيرة الكفاءات السورية.
ولم يُبدِ الاستشاري شحادة أيّ حماس بخصوص إنشاء هيئة للمتقاعدين، مفضلاً أن يتم استثمار خبراتهم عن طريق النقابات عبر استحداث مكاتب لهم لتقديم المشورة والرأي السديد في حل المشكلات وتصويب بعض القرارات، فخبرتهم تشكّل عاملاً حاسماً في الكثير من القضايا، مضيفاً: إن تمكين المتقاعدين من أصحاب الخبرات النادرة والإبقاء عليهم أمر مهم، ولكن هذا يجب ألا يكون على حساب البحث عن فرص عمل للشباب، وخاصة للخريجين في الجامعة، فالبطالة التي يعانون منها هي أشد إيلاماً وتستدعي البحث الجاد عن حلول ناجعة للتخفيف من آلامهم.
بالمختصر، المتقاعدون يمثلون ثروة حقيقية لأي مجتمع، ونحن في سورية بأمس الحاجة إلى استثمار هذه الثروة والاستفادة من الخبرات المتراكمة، وخاصة بعد أن سرقت الهجرة الخارجية خيرة الكفاءات والخبرات على مدار السنوات الـ/10/ الأخيرة، لذا من المهم جداً العمل على تفعيل أدوارهم، وخاصة المتميزين منهم كخبراء ومستشارين، ولاسيما أن بعضهم ترك العمل وهو في قمة العطاء.