مجلة البعث الأسبوعية

انتخابات تركيا.. معركة الساحات واستعراض الحشود في الحسابات الجيوسياسية.. المعارضة تبني خطتها على فشل حزب العدالة والتنمية

البعث الأسبوعية- علي اليوسف

دخل المنافسان الرئيسيان في “معركة ساحات واستعراض للحشود” قبل أيام من الانتخابات المزمعة في 14 أيار الحالي، إذ عمد كل من الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، ومرشح المعارضة ورئيس حزب “الشعب الجمهوري” كمال كليتشدار أوغلو، إلى حشد اللآلاف من أنصارهما في الساحات العامة للبلاد.

تأتي هذه المعركة فيما أظهرت استطلاعات الرأي تقارباً كبيراً بين المرشحين، حيث تشي تلك الاستطلاعات بأن المنافسة ستكون محتدمة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي لن تفضي فقط إلى اختيار رئيس البلاد، ولكن أيضاً إلى تحديد الدور الذي قد تلعبه أنقرة مستقبلاً في الصراعات في أوكرانيا والشرق الأوسط.

من هنا توصف الانتخابات التركية 2023 بأنها مفصلية في تاريخ البلاد منذ تأسيس الجمهورية قبل 100 عام، خاصةً أن هناك إجماع داخل وخارج تركيا على أن الانتخابات هذه المرة تمثل مفترق طرق للبلاد.

كما تنبع أهمية الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الثامنة والعشرين في تركيا من أنها تأتي بعد مرور 100 عام على تأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك، حيث تدخل الجمهورية قرناً جديداً بوعود كبيرة. ولا شك أن هذه الانتخابات لها تأثير مباشر على صياغة الحسابات الجيوسياسية، وتوازنات المنطقة، حيث يقول ضياء ميرال، الباحث في معهد خدمات رويال لدراسات الدفاع والأمن، لصحيفة واشنطن بوست: “ما يحدث في تركيا لن يبقى في تركيا فقط، تركيا قد تكون قوة متوسطة، لكن القوى الكبرى ستتأثر بنتائج الانتخابات في أنقرة”.

بمعنى أن ما سيقرره الناخبون الأتراك لن يتعلق فقط بمن سيحكم البلاد، لكن بكيفية الحكم أيضاً، والمسار الاقتصادي الذي ستسلكه تركيا، ودورها في تخفيف حدة الصراعات العالمية والإقليمية، مثل الحرب في أوكرانيا، والاضطرابات في الشرق الأوسط وإفريقيا.

نال 36 حزباً حق المشاركة في الانتخابات بعد استيفائها الشروط المطلوبة، رغم أن عدد الأحزاب السياسية في تركيا 122 حزباً مسجلاً بشكل رسمي، وفيما يلي أهم الأحزاب المنافسة في الانتخابات، وهي كالتالي:

1– تحالف “الجمهور”

وهو تحالف سياسي يضم كلاً من حزب العدالة والتنمية المحافظ، وحزب الحركة القومية بزعامة دولت بهجلي، وقد تشكل عام 2018، تمهيداً لخوض انتخابات 24 حزيران 2018 التي حظي فيها بأغلبية مقاعد البرلمان ومقعد الرئاسة، وحكم التحالف البلاد منذ ذلك الحين.

وبدأ حزب العدالة والتنمية الحاكم مؤخراً مفاوضات مع عدد من الأحزاب الصغيرة تضمنت عروضاً لها بالانضمام إلى تحالف “الجمهور”، وخوض الانتخابات القادمة معاً، وأبرزها حزب “الرفاه من جديد” بزعامة فاتح أربكان، نجل نجم الدين أربكان، و حزب “الدعوة الحرة” أو ما يعرف بالتركية بـ”هدى بارتي”، وهو حزب كردي ذو ميول إسلامية وقومية، ويُنظر إليه في الشارع التركي باعتباره نقيض حزب العمال الكردستاني.

2- تحالف “الأمة” (الطاولة السداسية)

تعرف الطاولة السداسية بأنها تحالف سياسي يضم 6 أحزاب تركية معارضة من خلفيات مختلفة ومتنوعة، تأسس في شباط 2022 لخوض انتخابات 2023 ، ومن أبرز الأهداف التي ترفعها أحزاب الطاولة السداسية بشكل واضح هي إسقاط الرئيس أردوغان، والعودة بالبلاد من النظام الرئاسي الذي أقر في عام 2018، إلى النظام البرلماني.

ويعد التحالف بين حزب الشعب الجمهوري وحزب الجيد نواة لتحالف الطاولة السداسية، حيث خاض الحزبان انتخابات 2018 المحلية، ثم انتخابات 2019 الرئاسية والبرلمانية تحت اسم “تحالف الأمة” المعارض.

وفي 13 شباط 2022 اجتمع قادة الحزبين الشعب الجمهوري والجيد كليتشدار أوغلو وميرال أكشنار، بالإضافة إلى زعيم حزب السعادة ذي الخلفية الدينية تمال كرم الله أوغلو، مع قادة 3 أحزاب أخرى هم: رئيس حزب الديمقراطية والتقدم (ديفا) علي باباجان، ورئيس حزب المستقبل أحمد داود أوغلو، وكلاهما منشقان عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، وأخيراً رئيس الحزب الديمقراطي غول تكين أويصال، لينتج عن هذا الاجتماع بيان سياسي أعلن فيه القادة السياسيون الستة اتفاقهم على السعي إلى إنشاء “نظام برلماني معزز” في البلاد.

آلية انتخاب الرئيس

ينتخب رئيس تركيا، الذي يتولى رئاسة الدولة والحكومة، مباشرة من خلال نظام الدورتين، الذي يتعين بموجبه على المرشح أن يحصل على أغلبية مطلقة من الأصوات لكي يُنتخب. وإذا لم يؤمن أي مرشح الأغلبية الشاملة بشكل قاطع، تجرى جولة الإعادة بين أكثر مرشحين تم التصويت لهما في الجولة الأولى، ثم يتم إعلان انتخاب الفائز بها. وتم إدخال هذا النظام الانتخابي لأول مرة للانتخابات الرئاسية لعام 2014، عندما حل محل نظام الانتخابات غير المباشرة الذي تم بموجبه انتخاب الرئيس من قبل البرلمان.

ويخضع الرئيس لحدود زمنية للخدمة، وقد يقضي فترتين متتاليتين على الأكثر 5 سنوات. ومع ذلك، يُتوقع أن يكون الرئيس الحالي، رجب طيب أردوغان، مؤهلاً للترشح لولاية ثالثة، نظراً لأن النظام الرئاسي التنفيذي الحالي لم ينفذ تنفيذاً كاملاً إلا بعد انتهاء فترة ولايته الأولى، مما يعني أن فترة حكمه من عام 2014 إلى عام 2018 لن تحتسب إلى حد فترتي ولايته الثانية.

منذ 2002، فاز حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان في جميع الانتخابات التي خاضها. وفي المقابل، مُني حزب الشعب الجمهوري المعارض بالهزيمة في جميع الانتخابات، ففي الانتخابات الأولى التي أجريت في أعقاب الانتقال إلى النظام الرئاسي في عام 2017، فاز أردوغان بنسبة 52% من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات.

يبدو أن كمال كليتشدار أوغلو دخل السباق الانتخابي وهو على يقين أنه سيهزم أردوغان،  حيث تسعى المعارضة التركية -في خطاباتها- لتكريس فكرة أنها التي ستحكم البلاد، وتحشد حراكها باتجاه الانتقال إلى “النظام البرلماني المعزز”، وقد سبق أن ذكر الكاتب التركي عبد القادر سيلفي، في مقال على صحيفة “حرييت”، أن المعارضة التركية، تتحدث عن التخلص من أردوغان وانتخاب رئيس جديد، وتعديل الدستور وإعادة البلاد إلى النظام البرلماني مرة أخرى، وأنهم سيحلون كافة المشاكل، ولكن هناك معضلة في التحالف الموسع.. أين سيجلس قادة المعارضة عند الإعلان عن المبادئ؟. وأضاف أن قادة المعارضة الذين يريدون ذلك لم يحددوا بعد الترتيب الذي سيجلسون فيه، وسيأتي علي باباجان وأحمد داود أوغلو في المقدمة إذا كان بالترتيب الأبجدي، وإذا كان الترتيب حسب العمر، فسيجلس تمل كارامولا أوغلو كمال كليتشدار أوغلو في المقدمة، ومهما كان الترتيب فإنهم سيعيدون تركيا إلى العصر القديم.

انتخابات مصيرية

ينظر في تركيا للانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة على أنها مصيرية واستثنائية، إذ تختلف عن سابقاتها من عدة زوايا، فهي تأتي بعد 21 عاماً من الحكم المتواصل لحزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان، و5 سنوات من تطبيق النظام الرئاسي الذي عمّق الاستقطاب في البلاد، وتكتسب رمزية عالية لتزامنها مع الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية.

كما أنها تأتي في ظل وضع اقتصادي صعب في البلاد، حيث اجتمعت المشاكل البنيوية والهيكلية في الاقتصاد التركي، وبعض التطورات الدولية والإقليمية، وفي مقدمتها العملية الخاصة الروسية في أوكرانيا، لتزيد من الضغوط على الليرة ومؤشرات الاقتصاد الأخرى، وهي ورقة ترفعها المعارضة في وجه التحالف الحاكم وأردوغان، إضافة لملف اللاجئين السوريين المقيمين على الأراضي التركية.

تدرك المعارضة أن الرئيس التركي ما زال المرشح الأقوى والأبرز للانتخابات القادمة، متسلحاً بما يملك من خبرة سياسية، وكاريزما وإنجازات وسجل حافل من الانتصارات في الانتخابات السابقة، إضافة لآلة حزبية ما زالت الأكثر فعالية بين الأحزاب السياسية في البلاد.

وبعيداً عن النقاش القانوني والدستوري بمدى أحقية الرئيس التركي بالترشح مرة أخرى للرئاسة، تأتي الانتخابات في ظل تراجع نسبي في شعبية أردوغان والعدالة والتنمية للأسباب السالفة الذكر وغيرها، لكنها ستجرى في ظل منظومة تحالفات قائمة سيكون لها تأثير مباشر على نتائجها، إذ من المرجح ألا تُحسم الانتخابات الرئاسية- الأهم بطبيعة الحال في ظل النظام الرئاسي- من الجولة الأولى وفق ما تظهره عموم استطلاعات الرأي المجراة في البلاد، وبالتالي سيكون على الأغلب ثمة حاجة لجولة إعادة تفرض من خلالها التحالفات نفسها عليها، بل ربما تفرض الإعادة نفسها على التحالفات وتعيد تشكيلها في آخر لحظة.

حسابات رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو، زعيم المعارضة، تقول إن هذه هي الفرصة الأخيرة اليوم في أفضل حالاتها لمنافسة أردوغان، الذي تراجعت شعبيته وشعبية حزبه نسبياً خلال السنوات القليلة الأخيرة، وإنها فرصة له شخصياً ليخرج عن إطار “زعيم المعارضة الذي خسر كل الانتخابات” أمامه. صحيح أن الانتخابات البلدية الأخيرة في 2019 حملت أخباراً طيبة له ولحزبه، لكنها أولاً انتخابات محلية قليلة الأثر السياسي، وثانياً فقد تقدم العدالة والتنمية فيها باقي الأحزاب بفارق ملحوظ رغم أنه تراجع نسبياً وخسر بلديات ذات رمزية عالية مثل إسطنبول وأنقرة.

لكن عدم اكتراث زعيم المعارضة بآراء الأحزاب الأخرى ومحاولة وضعه إياها أمام الأمر الواقع مبني على تقديره، وتقدير الكثيرين، بأن الانتخابات الرئاسية من الصعب أن تحسم في الجولة الأولى وستحتاج إلى جولة إعادة. هذه المعادلة، أي جولة إعادة بين أردوغان وكليتشدار أوغلو ستضع كافة المعارضين شخصياتٍ وأحزاباً أمام اختبار انتخاب أردوغان الذي يعارضونه، أو انتخاب وكليتشدار أوغلو. بهذا المنطق، قد يبدو أن حسابات الأخير صحيحة وأنه سيكون له فرصة حقيقية وكبيرة في المنافسة بل والفوز على أردوغان، بالنظر للقيمة الجمعية لأصوات أحزاب المعارضة، لكن قد تكون حسابات كليتشدار أوغلو المبنية على تقدير فرصة غير مسبوقة لإمكانية هزيمة أردوغان هي نفسها بطاقة إعادة انتخاب الرئيس الحالي لفترة إضافية، لأنها مبنية على تقدير موقف غير دقيق.

الخلاصة

من الواضح أن المعارضة التركية بنت خطتها بشكل كامل ليس وفقاً لمشاريعها وأطروحاتها الخاصة، بل على فشل محتمل لحزب العدالة والتنمية، وبالتالي فإن الانتخابات الرئاسية في تركيا ستأخذ طابع استفتاء حول حكم أردوغان الذي يواجه للمرة الأولى معارضة موحدة بعد 20 عاماً على توليه السلطة، حيث يواجه الرئيس المخضرم مرشحاً يدعمه تحالف المعارضة التركية.

لذلك من المتوقع أن تشهد الانتخابات منافسة حامية، وأن تكون النتيجة متقاربة للغاية،  إذ إن نسبة المصوتين الذين لم يحسموا أمرهم بعد (الناخبين المتأرجحين) مرتفعة وتزيد على 13%. وبحسب مجلة ” الايكونوميست” سيستفيد الرئيس أردوغان من تاريخه الطويل من النجاحات منذ تولى المسؤولية، وشخصيته الكاريزمية، وقاعدة الناخبين المؤيدة له من المحافظين، بالإضافة إلى عوامل أخرى تصبّ في صالح الرئيس، وسيكون لها على الأرجح الكلمة الفصل في النتيجة النهائية. كما رصدت المجلة البريطانية عناصر أخرى تتعلق بـ”اقتصاد الانتخابات”، في إشارة إلى الإجراءات المتعددة التي اتخذتها حكومة الرئيس أردوغان للتخفيف على المواطنين من أعباء الأزمة الاقتصادية، ومنها على سبيل المثال رفع الحد الأعلى للأجور، وتخفيض سن المعاش، وإصدار إجراءات أخرى تتعلق بتأجيل أو تخفيض الضرائب والرسوم المستحقة للدولة. كما أدت طريقة تعامل الرئيس التركي مع الحرب الأوكرانية إلى الإشادة به، وعززت التأييد له بصورة لافتة، بحسب تقرير لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية، نشرته مطلع العام الجاري، بعنوان “الانتخابات الأهم في العالم خلال عام 2023 ستكون في تركيا”، ألقى الضوء على الأسباب والملابسات التي تجعل ذلك السباق الانتخابي بهذه الأهمية، ليس فقط لتركيا، ولكن للعالم أيضاً.

 

على الرغم من شراسة الانتخابات هذه المرة، واشتداد المنافسة بصورة تجعل من الصعب الجزم بنتيجتها، سواء على منصب الرئيس أو لاختيار البرلمان الذي سيشكل الحكومة، فإن النقطة الوحيدة التي عليها إجماع هي الأهمية التي تحظى بها. فنتائج الانتخابات التركية، أياً كانت، سوف يكون لها تأثير مباشر على صياغة الحسابات الجيوسياسية في واشنطن وموسكو، إضافة إلى عواصم في أوروبا والشرق الأوسط ووسط آسيا وإفريقيا.

لذلك لن تحدد نتيجة هذه الانتخابات فقط من سيحكم تركيا، بل أيضاً كيف ستحكم البلاد في المرحلة المقبلة، فما سيقرره الناخبون الأتراك، يوم 14 أيار، يتعلق أيضاً بالمسار الاقتصادي الذي ستسلكه تركيا، ودورها المستقبلي، وعليه إن الانتخابات التركية، سواء على مقعد الرئيس أو مقاعد البرلمان، مفتوحة على جميع الاحتمالات، وعلى الأرجح ستكون نتائجها متقاربة للغاية، نظراً لأهميتها القصوى، ليس فقط للأتراك، بل للمنطقة والقوى الكبرى حول العالم.