سورية والصين.. تتويج للنجاحات الدبلوماسية.. دمشق تعود للساحة الدولية وتثبت أن ساسة الغرب يفتقدون الحدس السياسي
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
سيدخل عام 2023 الذي لم ينته بعد تاريخ العالم باعتباره عاماً مهماً تميز بالحروب في أوكرانيا، وصعود الحركات المعادية للاستعمار في أفريقيا، والكوارث المناخية الكبرى، وعدم الاستقرار السياسي. وعند النظر إلى السياسيين العالميين المؤثرين، يلاحظ أن الرابح السياسي الأكبر في العام الحالي هو الحكومة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد.
على الرغم من أن الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ودول أخرى حاولت الإطاحة بالحكومة الشرعية في سورية لمدة عقد كامل منذ عام 2011، إلا أنها فشلت، وذلك بفضل تماسك الشعب السوري والتفافه حول قيادته وجيشه، وبمساعدة الحلفاء روسيا وإيران. لم تنته الحرب بعد، ولكن من غير المرجح أن تنقلب عجلة الحظ ضد الحكومة في دمشق.
العودة الكبرى لسورية إلى الساحة الدولية
على الرغم من أن السياسيين الغربيين كانوا يكررون يومياً بين عامي 2015 و2016 أن “الأسد يجب أن يرحل” إلا أن أمنياتهم ذهبت أدراج الرياح، و رحل باراك أوباما، ودونالد ترامب، وأنجيلا ميركل، وبقيت الحكومة السورية، التي تحملت العزلة الدولية من قبل جزء كبير من العالم. ولو كان يمتلك الساسة الغربيين حدس سياسي أكثر تطوراً، لكانوا قد اختاروا كلماتهم بعناية أكبر . وبعد سنوات عديدة، في أيلول 2023، خلال زيارة إلى جمهورية الصين الشعبية، حظي الرئيس الأسد والسيدة أسماء باستقبال رائع من كبار القادة الصينيين وعلى رأسهم الرئيس شي جين بينغ.
تم الإعلان خلال زيارة الرئيس الأسد الهامة للصين عن الشراكة الإستراتيجية بين الصين وسورية، حيث تعتبر الزيارة بمثابة تتويج للنجاحات الدبلوماسية التي حققتها الحكومة السورية بفضل قيادة الرئيس بشار الأسد. وفي شهر أيار الماضي عادت سورية إلى عضوية جامعة الدول العربية، وفي نفس الشهر تمت عودة العلاقات مع السعودية.
وخلال افتتاح دورة الألعاب الآسيوية التاسعة عشرة في مدينة هانغتشو، تواجد الرئيس الأسد في منصة الاحتفال التي كان حاضراً فيها أيضاً رئيس اللجنة الأولمبية الدولية توماس باخ، في إشارة إلى أنه على الرغم من عزلة الغرب، إلا أن الأسد دخل الساحة الدولية. لقد تمت استعادة الشرعية الدولية وشرعية حكومة الجمهورية العربية السورية بقيادة الرئيس الأسد بشكل مذهل، حيث يقوم الرئيس بعمل كبير على جبهة السياسة الخارجية.
تاريخ طويل من العلاقات الصينية السورية
عند النظر في العلاقات الصينية السورية الحالية، يجب الإشارة إلى أن العلاقات بين البلدين مستمرة منذ قرون. وبما أن الحضارة الصينية عمرها عدة آلاف من السنين، فإن المصالح الصينية في سورية تعود إلى العصور القديمة، حيث كان طريق الحرير الصيني القديم يمر عبر آسيا الوسطى مروراً بتدمر ودمشق قبل أن يتجه نحو صور وأنطاكية ، لبنان وتركيا حالياً. لا تزال هناك آثار قليلة لهذا التعاون الصيني السوري القديم – على سبيل المثال، بناء المعابد التي لا تزال مرئية في فسيفساء الجامع الأموي الكبير في دمشق. وبعد نهاية الحرب الباردة، اقتربت سورية من روسيا والصين وكوريا الديمقراطية مع تزايد النفوذ الأمريكي في المنطقة، الموجه ضد الحكومة السورية.
بصرف النظر عن الزيارات العديدة إلى روسيا، كانت زيارة الرئيس الأسد للصين التي استغرقت أربعة أيام هي أول زيارة له إلى دولة أجنبية خارج الشرق الأوسط منذ اندلاع الحرب في عام 2011. وكانت زيارته الثانية للصين بعد زيارة في عام 2004. وحتى ذلك الحين، كانت دمشق تعيش عزلة سياسية كسرتها دعوة من الرئيس الصيني آنذاك هو جينتاو . وخلال تلك الزيارة، أنشأ البلدان مجلس الأعمال السوري الصيني، الذي يهدف إلى التعاون في مجالات العلوم والزراعة والاتصالات والطاقة . قبل حرب عام 2011، تعاقدت شركتا الاتصالات الصينيتان العملاقتان “زد تي إي” و “هواوي” على مشاريع في سورية، كما تجاوزت مبيعات السيارات الصينية 10 آلاف سيارة كل عام . وكانت الصين واحدة من أكبر المستثمرين في قطاع النفط السوري، حيث استثمرت ثلاث شركات صينية مملوكة للدولة ما مجموعه 3 مليارات دولار.
عبارات عظيمة
في 22 أيلول، التقى الرئيس الصيني شي بالرئيس الأسد في هانغتشو، خلال زيارته للصين لحضور حفل افتتاح دورة الألعاب الآسيوية التاسعة عشر، بحضور كبار المسؤولين الصينيين والسوريين.
وأشار شي إلى أن سورية كانت من أوائل الدول العربية التي أقامت علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية عام 1956 وهي من الدول التي أيدت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2758 الذي أعاد لجمهورية الصين الشعبية مقعدها في مجلس الأمن الدولي عام 1971. على مدى السنوات الـ 67 الماضية منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية، صمدت العلاقات الصينية السورية أمام جميع الاختبارات، وتعززت الصداقة بين البلدين . وشدد شي على أن إقامة شراكة إستراتيجية بين الصين وسورية ستشكل حدثاً هاماً، حيث أن الصين مستعدة للعمل مع سورية في تعزيز التطوير المستمر للشراكة الإستراتيجية. وشدد شي على أن الصين مستعدة للتعاون مع سورية لحماية المصالح المشتركة. وقال إن الصين تدعم سورية في معارضة التدخل الخارجي والحفاظ على استقلالها الوطني وسيادة وسلامة أراضيها، وفي جهود إعادة الإعمار ومحاربة الإرهاب وتحقيق حل سياسي . وقال شي إن الصين ترغب في تعزيز التعاون مع سورية على طريق الحرير الجديد، وزيادة التجارة في المنتجات الزراعية، والعمل مع دمشق من أجل التنفيذ الفعال لمبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمي، ومبادرة الحضارة العالمية، للمساهمة في السلام والتنمية الإقليميين.
من جهته أشاد الرئيس الأسد بالاشتراكية ذات الخصائص الصينية . وأكد أن الصين تقف دائماً إلى جانب العدالة الدولية، وتدعم القانون الدولي والجهود الإنسانية، وتلعب دورا ًهاماً وبناءً في العالم . وأشار إلى أن مبادرات الصين العالمية تهدف إلى مساعدة جميع الشعوب على تحقيق التنمية من أجل مستقبل مزدهر . وهنأ الرئيس الأسد الصين على إنجازاتها العظيمة، وشكر الحكومة الصينية على تقديم الدعم للشعب السوري، وعارض بشدة تدخل القوى الأجنبية في الشؤون الداخلية للصين . وأكد أن سورية ستعتبر إقامة الشراكة الإستراتيجية السورية الصينية فرصة لتعزيز التعاون الثنائي والإقليمي. وعقب الاجتماع، شهد الرئيسان بشكل مشترك التوقيع على عدة اتفاقيات في إطار طريق الحرير الجديد، وفي مجال التعاون الاقتصادي والفني وغيره من أشكال التعاون.
بكين حامية دبلوماسية مهمة لسورية خلال الحرب
كانت الصين خلال الحرب الإرهابية التي شنت على سورية، حامية دبلوماسية مهمة لسورية، حيث أعاقت هي وروسيا بانتظام قرارات مجلس الأمن الدولي الموجهة ضد الحكومة السورية . حتى أن الصينيين استخدموا حق النقض (الفيتو) ضد قرارات الأمم المتحدة عشر مرات ، بينما استخدموه في السابق ست مرات فقط خلال فترة خمسين عاماً. إن هذه الخطوات تثبت أهمية سورية بالنسبة للصين
ونددت بكين بالتدخلات العسكرية الأجنبية، واحتلال جزء من الأراضي السورية ، وهي تحركات من جانب الولايات المتحدة وتركيا و”إسرائيل”. منذ بداية الحرب على سورية، شجع الصينيون على المفاوضات والاتفاقات، حيث تنظر الصين إلى سورية في سياق سياستها الطويلة الأمد في الشرق الأوسط. وخلافاً للمسؤولين الأمريكيين الذين يركزون على الإنجازات القصيرة الأمد التي يمكن بيعها للناخبين كل سنتين أو أربع سنوات، يركز صناع السياسات في بكين على ما يمكن تحقيقه لسنوات أو عقود عديدة في المستقبل، مثل الدور الذي تلعبه سورية في مبادرة طريق الحرير الجديد. وفي كانون الثاني 2022، انضمت سورية إلى طريق الحرير الجديد، وبمجرد تحسن الظروف في سورية، تأمل الصين في الاستفادة من موقعها الجغرافي في بلاد الشام، مستفيدة من الموانئ السورية.
يعتبر الموقع الجغرافي لسورية ذو أهمية إستراتيجية لأنها تقع في وسط الشرق الأوسط على شرق البحر الأبيض المتوسط، وسوف تصبح واحدة من أهم الدول عند تقاطع آسيا وأفريقيا . بالإضافة إلى ذلك، تتمتع دمشق بنفوذ كبير على القضايا الجيوسياسية المهمة في المنطقة، مثل العلاقات مع وإيران والعراق، ويمكنها أيضاً التأثير على العمليات السياسية في لبنان والأراضي المقدسة.
تحول سورية إلى الشرق
وبعد 12 عاماً من الحرب الارهابية التي تسببت في دمار هائل بقيمة 400 مليار دولار، تحتاج سورية التي مزقتها الحرب إلى إعادة الإعمار وهي معزولة عن الدول الغربية القوية اقتصادياً، بسبب العقوبات المفروضة عليها. كما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الكيانات السياسية والاقتصادية التي تتعامل مع سورية. ويشترط الأمريكيون تشكيل حكومة انتقالية واستقالة الحكومة الشرعية ، لكن مثل هذا السيناريو غير مقبول بالنسبة للحكومة السورية، ولهذا السبب قرر الرئيس الأسد الاتجاه شرقاً لبرنامج إعادة الإعمار.
لقد بعثت زيارة الأسد للصين برسالة مفادها أنه على الرغم من الجهود الغربية لعزلها، فإن سورية ليست معزولة في الشرق، حيث تتناسب تماماً مع المشهد الجيوسياسي، الذي ينضح بالتعددية القطبية. كما تظهر زيارة الأسد للصين قبول سورية من قبل الجنوب العالمي.
وعلى الساحة الدولية، دافعت سورية باستمرار عن الصين في قضايا شينجيانغ وتايوان وهونغ كونغ. ففي الماضي، انتقدت الحكومة السورية الغرب بسبب اتهامه للحكومة الصينية بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في شينجيانغ، واتهمت الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى بالسعي إلى دق إسفين بين بكين والعالم العربي والإسلامي. وفي آب 2022، سارعت وزارة الخارجية السورية إلى إدانة زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، إلى تايوان، ووصفتها بأنها “عمل عدائي لا يتفق مع القانون الدولي ولا يحترم سيادة واستقلال وسلامة أراضي جمهورية الصين الشعبية”.
خطوة الصين الكبيرة للأمام في الشرق الأوسط
ينبغي النظر إلى تعزيز العلاقات بين بكين ودمشق في ضوء المشاركة الصينية القوية المتزايدة في المنطقة . وفي شهر آذار من هذا العام، تمكنت بكين من الاتفاق على إعادة العلاقات بين السعودية وإيران، اللتين كانتا في حالة حرب دبلوماسية. تشكل المصالحة السعودية الإيرانية نجاحاً كبيراً للدبلوماسية الصينية.
ومن الواضح أن النفوذ الصيني في المنطقة ينمو بشكل كبير، ويريد الصينيون مواجهة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط من خلال مبادرة طريق الحرير الجديد، ومجموعة البريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون وغيرها من المشاريع الاقتصادية والأمنية . وتعد البريكس منافساً مباشراً لمجموعة السبع المؤيدة للغرب . في الأول من كانون الثاني 2024، ستنضم أربع دول شرق أوسطية جديدة إلى مجموعة البريكس: إيران والسعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر، إلى جانب الأرجنتين وإثيوبيا . وفي أيلول من هذا العام، في المعرض التجاري الصيني العربي السادس في ينتشوان، تم توقيع عقود بقيمة 23.4 مليار دولار بين الصين والدول العربية. وشارك في هذا المعرض ممثلو 60 دولة و220 شركة أجنبية و150 شركة صينية. وتمتلك الصين شراكات إستراتيجية أو شاملة مع عشرات الدول في المنطقة.
الاستثمارات الصينية في سورية
من المرجح أن تستثمر بكين المزيد في سورية، وسيعتمد ذلك على كيفية تطور الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في المستقبل. وعلى الرغم من أن الصين هي أكبر شريك تجاري لسورية، إلا أن حجم التجارة بالنسبة لبكين متواضع مقارنة بالشركاء الإقليميين الآخرين، وخاصة السعودية وإيران . وعلى الرغم من انخفاض الواردات السورية من الصين بعد اندلاع الحرب، إلا أنها لم تتأثر مثل الواردات من الدول الأخرى. لقد أصبحت المنتجات الصينية الرخيصة ذات أهمية متزايدة . وصدرت الصين خلال عام 2021 بضائع بقيمة 482 مليون دولار إلى سورية، وكان الأرز الأكثر تصديراً. وفي العام نفسه، صدرت سورية بضائع بقيمة 1.2 مليون دولار إلى الصين، وهو مبلغ ضئيل بالنظر إلى الإمكانات السورية الهائلة. ويهتم الصينيون بالاستثمار في السكك الحديدية والطرق السريعة والموانئ والمطارات السورية وقطاع الطاقة والنفط والغاز. وتهتم بكين بشكل خاص بمدينتي طرطوس واللاذقية ، والتي من شأنهما أن توفرا لطريق الحرير الجديد منفذاً ممتازاً إلى البحر الأبيض المتوسط وأوروبا . كما يمكن للصينيين الاستثمار في الاتصالات السورية وإنتاج المصانع بما في ذلك صناعة السيارات.
إن أحد الدوافع المهمة للتعاون الصيني السوري هو مكافحة الإرهاب، والقضاء على الجماعات الإرهابية المسلحة في سورية والعراق إلى جانب “جبهة النصرة” ومتطرفين آخرين بما في ذلك تنظيم “داعش”، والذين ووصلوا إلى سورية عبر تركيا وآسيا الوسطى.
عندما اندلعت الحرب ضد سورية في عام 2011، اعتقد صناع السياسات في بكين أن الأمريكيين سيعملون بشكل وثيق مع منظمة شنغهاي للتعاون لمحاربة الإرهاب، لكنهم أصيبوا بخيبة أمل وأدركوا في نهاية المطاف أن حكومة الرئيس بشار الأسد يمكن أن تكون شريكتهم في هذا الصدد.
تطمح الصين إلى بناء علاقات ممتازة مع سورية من أجل بناء كتلة سياسية اقتصادية خاصة بها، وتقويض قوة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ومع تعمق الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، تريد الصين أن يكون لها موطئ قدم قوي في منطقة الشرق الأوسط ودول الخليج العربي.
في المقابل ستستمر دمشق في النظر إلى بكين كشريك رئيسي، حيث تتمتع الصين بثاني أكبر اقتصاد في العالم، وهي عضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وتتمتع بقوة متزايدة في الشرق الأوسط.