دراساتصحيفة البعث

بعد سجل حافل بخرق الهدن.. “إسرائيل” تخرق الهدنة من جديد

د. معن منيف سليمان

دأبت “إسرائيل” على خرق الهدن التي كانت تبرمها مع المقاومة في قطاع غزّة، مستغلة الرعاية الغربيّة الشاملة لها، وغياب العدالة على مستوى مجلس الأمن، وحالة الضعف التي تمرّ بها جامعة الدول العربية كإطار إقليمي، وتواطؤ بعض الأنظمة العربية. وعلى الرغم من دخول التهدئة الإنسانية في قطاع غزة يومها الثالث، إلا أن قوات الاحتلال الإسرائيلي لم تحترم الهدنة وقامت بخرقها من جديد في عدّة مواضع في القطاع.

تعدّ الهدنة جزءاً من روح القانون الإنساني الدولي، وهي خطوة تُستخدم لإنهاء النزاعات المسلّحة، أو تقليل حدّة الصراعات العسكرية، وقد تؤدّي إلى اتفاق نهائي في نهاية المطاف، وغالباً ما تتضمّن الهدنة شروطاً وأحكاماً محدّدة تحدّد الالتزامات والمسؤوليات لكل طرف، مثل: تحديد المناطق الآمنة، أو تسليم المساعدات الإنسانية، أو تبادل الأسرى والمحتجزين.

وبخصوص عدم احترام “إسرائيل” للهدنة الحالية مع حركات المقاومة في قطاع غزّة، فإن “إسرائيل” تستغل عدم وجود جزاءات دولية يمكن أن تُفرض عليها، لأسباب مرتبطة بغياب العدالة على مستوى مجلس الأمن، وبسبب الدعم غير المحدود الغربي لها، وبسبب حالة الضعف التي تمرّ بها جامعة الدول العربية كإطار إقليمي، فضلاً عن تواطؤ بعض الأنظمة العربية.

ومن هذا المنطلق، تجرّأت “إسرائيل” على خرق الهدنة المبرمة مع قوى المقاومة في قطاع غزّة، يدفعها إلى ذلك العنجهية والصلف المبنيّ على أسس أيديولوجية منظّمة، ويستند إلى فرائض دينية تنصّ على عدم إعطاء عهود ومواثيق للشعوب الأخرى ومن بينهم الشعب العربي.

وهكذا استهدفت الزوارق الحربية الإسرائيلية ساحل مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة بالقذائف، وأطلقت الآليات الإسرائيلية المتمركزة في مدينة بيت حانون النار على المواطنين، وأصابت شابين أحدهما في حالة حرجة، وفتحت القوّات الإسرائيلية نيران الدبابات على أطراف حي الشيخ رضوان ومخيم الشاطئ شمالي غرب مدينة غزّة، على الرغم من تمديد الهدنة.

وفي وقت لاحق، أعلن المتحدث باسم كتائب القسام أن القوات الإسرائيلية اخترقت الهدنة في شمالي قطاع غزّة، ما أسفر عن اشتباكات بين الجانبين.

وسبق أن أقدمت “إسرائيل” أكثر من مرّة على خرق الهدن الإنسانية مع قوى المقاومة في قطاع غزة. وخلال السنوات السالفة: (2008، 2012، 2014، 2021)، شنّت “إسرائيل” عمليات عدوانية واسعة على قطاع غزّة، انتهت هذه الجولات القتالية بإبرام هدن مع حركات المقاومة برعاية مصرية. وفي كل مرّة كانت “إسرائيل” تنتهك هذه الهدن، ومنها على سبيل الذكر عندما انتهك جيش الاحتلال الإسرائيلي الهدنة المعلنة مع الجانب الفلسطيني لأوّل مرّة في قطاع غزّة منذ انسحاب القوّات وبدء سريان التهدئة في 26 تشرين الثاني 2006، وقصفت المدفعية مناطق مفتوحة، شمالاً في بيت لاهيا، في حين واصل الجنود عمليات المداهمة اليومية في مختلف مدن وقرى الضفة الغربية.

كذلك شنّت طائرات حربية إسرائيلية غارات جوية عدّة على جنوبي قطاع غزّة، من دون أن تسفر عن وقوع إصابات، في أوّل انتهاك للهدنة الموقعة بين حركة “حماس” و”إسرائيل” برعاية مصرية في 16 آب 2014، كما أطلقت الزوارق الحربية الإسرائيلية الذخيرة على شاطئ القطاع بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، الذي استمرّ أكثر من خمسين يوماً مخلّفاً 2143 شهيداً فلسطينياً، معظمهم من المدنيين، و71 قتيلاً في الجانب الإسرائيلي، أغلبيتهم من العسكريين.

وعربياً مع دول الطوق، أبرمت “إسرائيل” منذ قيامها عام 1948، سلسلة من الاتفاقات والهدن لم تحترم معظمها، وتعاملت معها على أساس أنها فرص سياسية وعسكرية لفرض وقائع ميدانية.

وهكذا أنهت الهدن التي أُبرمت بين الدول العربية و”إسرائيل” منذ عام 1948، برعاية الأمم المتحدة، القتالَ الدائر بينهم لوقت محدّد من الزمن، وعلى الرغم من اتفاق الهدنة شنّت “إسرائيل” عدواناً ثلاثياً مع فرنسا، وبريطانيا عام 1956، على مصر، ثم حرباً شاملة على مصر، وسورية، والضفة الغربية وقطاع غزّة عام 1967، قبل أن تبرم اتفاقات سلام مع مصر والأردن ومنظّمة التحرير الفلسطينية.

واستغلّت “إسرائيل” هذه الهدن وجعلت حدودها الأولية هي آخر ما وصلت إليه قواتها العسكرية؛ أي 77 بالمئة من مساحة فلسطين التاريخية، وليس ما قرّره قرار التقسيم عام 1948؛ أي 55 بالمئة، وفي عام 1967، احتلّت ما تبقى من فلسطين: الضفة الغربية، وقطاع غزّة، والقدس.

وفيما يتعلّق بالهدنة بين مصر و”إسرائيل” الموقعة في 24 شباط 1949، في جزيرة رودس، فقد استطاعت “إسرائيل” بالحيلة والخداع ضمَّ نحو 200 كيلو متر مربع من مساحة قطاع غزّة التي كانت تبلغ حسب اتفاق الهدنة، 555 كيلومتراً مربعاً، وليست 362 كيلومتراً مربعاً.

وانتهزت “إسرائيل” فرصة الشكاوى المقدّمة منها إلى لجنة الهدنة، وطلبت تحديد خط الهدنة بعلامات واضحة؛ لإيقاف تعديات الفلسطينيين التي اقترفوها في أثناء عودتهم إلى ديارهم، وأطلقت عليهم اسم “المتسلّلين” إلى أرض “إسرائيل”.

ولقد تمّ الاتفاق مع ضباط وقادة مصريين على تقليص مساحة قطاع غزّة، وكان هدف “إسرائيل” الحقيقي، من وراء ذلك، تقليصَ مساحة قطاع غزّة قدر الإمكان، والاستيلاء على المياه الجوفية في شمالي القطاع من خلال اتفاقية سرية عرفت باتفاقية التعايش بتاريخ 22 شباط 1950؛ أي بعد سنة من اتفاقية الهدنة.

أمّا بالنسبة إلى الهدنة مع لبنان، فلم تحترمها “إسرائيل”، بل ارتكبت مجزرة الحولة. وفي عام 1967، ألغتها من طرف واحد، واحتلّت جزءاً من أراضيه، ثم واصلت انتهاكها بشكل متصاعد، إلى أن احتلت جزءاً آخر منه عام 1978.

أمّا اتفاقية أوسلو الموقعة في 13 أيلول 1993، بين منظمة التحرير الفلسطينية، و”إسرائيل”، فقد كان من المتوقع ـ خلال خمس سنوات ـ أن تتمّ مناقشة قضايا الحل النهائي، وهي: الاستيطان، والقدس، والأمن والحدود، واللاجئون، والمياه؛ تمهيداً لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة، لكن “إسرائيل” تجاهلت هذه الملفات وفرضت وقائع خطيرة على الأرض، تمثّلت بالاستيلاء على أراضٍ واسعة من الضفة الغربية، والقدس المحتلّة، كما فرضت حصاراً شديداً وقاسياً على قطاع غزّة.

وفي ظلّ هذه الخروق المتكرّرة للهدن مع الدول العربية عامة وحركات المقاومة خاصة، سيكون من الصعب إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حَزِيران، وعاصمتها القدس الشريف، وذلك أن الظروف السياسية التي تحكم العنجهية الإسرائيلية هي السبب الرئيسي لعدم احترام الهدن مع الأطراف العربية، وبسبب الدعم الغربي غير المشروط والتواطؤ العربي، لم يكن هناك ما يمنع “إسرائيل” من تعطيل التهدئة في كل مرّة.