مجلة البعث الأسبوعية

بعد مضي أكثر من عقد ونصف على اقتصاد السوق الاجتماعي.. دعوات للعودة إلى نظام التسعير!  القطاع الخاص لا يلتزم بدوره الوطني والأسعار لم تعد تتوقف عند سقف محدد!

البعث الأسبوعية – حسن النابلسي

مضى أكثر من عقد ونصف على انتهاج اقتصاد السوق الاجتماعي، وما تمخض عنه من تداعيات أدت إلى ارتفاع الأسعار نتيجة تحرير معظم السلع والمواد، واعتماد مبدأ العرض والطلب دون الرجوع إلى آلية تسعير محددة ومعتمدة من وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك التي اكتفت بمراقبة مدى التزام التجار بإشهار لائحة الأسعار وبطاقات بيان السلع والمواد، ووصل الأمر إلى مرحلة باتت فيها الأسعار لا تتوقف عند سقف محدد، والمستهلك لم يستطع خلال هذه الفترة التكيف مع هذا الواقع، خاصة في ظل عدم موازاة الأسعار للرواتب والأجور في كلا القطاعين العام والخاص، ناهيكم عن غياب واضح لمبدأ المنافسة ليحل محله الاحتكار، مشوهة بذلك نهج اقتصادي طالما نجح في العديد من الدول التي سبقتنا إليه!

لصالح التجار!

لقد ثبت أن اقتصاد السوق الاجتماعي وخلال السنوات السابقة كان لصالح فئة التجار التي استفادت منه على حساب الشريحة الواسعة من المواطنين، عبر تحرير الأسعار والحصول على هوامش ربح واسعة، بحجة أن قوى العرض والطلب هي من تحدد الأسعار، لكن واقع الأمر يؤكد أن التجار هم المسيطرون في هذا الشأن نظراً لغياب المنافسة الشريفة وسيطرة الاحتكار، ما دعا كثير من المراقبين إلى المناداة بإعادة سياسة التسعير الإداري السابقة التي كانت معتمدة أيام الاقتصاد المركزي المخطط، على اعتبار أن المستهلك كان الضحية الأكبر من جراء تطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي، في الوقت الذي يرى فيه آخرون أن سورية ليست بمعزل عن العالم ويجب عليها الانخراط بالاقتصاديات العالمية، وبالتالي اعتماد اقتصاد السوق أمر لا مفر منه، كي تتواصل عبر اتفاقيات وشراكات اقتصادية مع الدول والمنظمات العالمية، وإن فشلت فكرة اقتصاد السوق في سورية فذلك يعود إلى سوء التطبيق وليس لماهية الفكرة، وذلك وفقاً لما يؤكده كثير من الاقتصاديين، معتبرين أن فكرة اقتصاد السوق الاجتماعي صحيحة، بيد أن المشكلة عندنا تتمثل بالحكومة التي لم تعط هذه الفكرة برنامجاً واضحاً، وإلى الآن لا أحد يفهم ما هو المطلوب من اقتصاد السوق الاجتماعي، وما عرفناه بعد التطبيق العملي له يتلخص فقط بتخلي الدولة عن الدعم.

ليست خياراً

ثمة إجماع من قبل أهل كار الاقتصاد بأنه لم يكن مقبولاً أن يبقى الاقتصاد موجهاً ومخططاً مركزياً من قبل الحكومة، في محيط عالمي يتحرك بأسره اقتصاد عالمي ينحو نحو الانفتاح والتحرر، معتبرين أن طرح فكرة اقتصاد السوق لم تكن خياراً وإنما ضرورة ملحة، ولم يكن من المنطقي البقاء ضمن حالة التكبل والتقيد التي كان يعيشها الاقتصاد السوري سابقاً، حيث كل شيء محكوم بقرارات مركزية من الحكومة، وليس هناك مد حقيقي لاقتصاد السوق ولقوى العرض والطلب، لذلك ومن أجل مجاراة الاقتصاد العالمي والانفتاح عليه وتطوير بنيتنا الاقتصادية، كان لابد من السماح للقطاع الخاص بالتحرك عبر انتهاج اقتصاد السوق الاجتماعي.

وما حاولوا تطبيقه في سورية هو إعطاء النصيب لاقتصاد السوق كي يتحرك مع المحافظة على البعد الاجتماعي والعدالة الاجتماعية في التوزيع، لكن ما حصل على أرض الواقع لم يكن قريباً إطلاقاً من مصطلح اقتصاد السوق الاجتماعي، وإنما كان هناك تحريراً للسوق وتراجعاً لدور القطاع العام، مع تركز الثروات بأيدي فئة قليلة من التجار وأصحاب رؤوس الأموال، أي أن النهج الجديد نجح في أحد طرفيه بأخذ الثروة وامتصاص النسغ الاقتصادي من الاقتصاد الوطني ليتركز في يد فئة معينة، بما يتناسب مع حقيقة جوهر عمل اقتصاد السوق، وفشل بجانبه الآخر المتمثل بالاجتماعي، وكانت النتيجة زيادة نسبة الفقر، وارتفاع الأسعار بشكل هائل مع تنامي حاجات الناس الاستهلاكية، إلى جانب ظهور ما يسمى بالركود التضخمي، مع انتفاء المفردة الأساسية في أي اقتصاد حر (المنافسة ومنع الاحتكار) والتي تعتبر بيضة قبان السوق الحر، كونها تعني أن البقاء في السوق للمستثمر الأفضل.

احتكار!

تتحدد الأسعار في اقتصاد السوق بناء على قوى العرض والطلب دون أن تتدخل الدولة في ذلك، لكن بشرط تفعيل قانون المنافسة ومنع الاحتكار، وبعد مرور سبعة عشر عاماً على تطبيق انتهاج اقتصاد السوق في سورية تم تحرير نحو 90% من أسعار السلع والمواد على أن تخضع الـ10 % الباقية -وتشمل المواد الأساسية اليومية- لنشرة تسعير تصدر من وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، وكانت النتيجة عدم تفعيل قانون المنافسة، وارتفاع هائل بأسعار المواد المحررة وغير المحررة، وبذلك تعالت أصوات المناديين بإعادة سياسة التسعير المعتمدة أيام الاقتصاد الموجه، خاصة بعد اختفاء بعض المواد المستوردة من دول لم تفرض عقوبات على سورية مثل مادة المتة المستوردة من الأرجنتين، والتي اختفت في فترة سابقة بحجة العقوبات، في حين أنها متوافرة في المستودعات وتم احتكارها من قبل البعض، واحتجازها من البعض الآخر، على أمل ارتفاع سعرها لاحقاً، خاصة في ظل ما كان يشاع عن انخفاض قيمة الليرة السورية!

يؤكد في حماية المستهلك أنه من الصعوبة بمكان إعادة سياسة التسعير لجميع السلع والمواد، وذلك نتيجة اكتظاظ الأسواق بكميات كبيرة من الأنواع والأصناف التي لا حصر لها، وهذا يحتاج إلى فريق عمل كبير جداً للتسعير.

وأضاف المصدر أنه في حال وجود شطط بسعر أي مادة أساسية تمس حاجة المستهلك حتى لو كانت محررة، يحق للوزير التدخل وتحديد سعرها، مبيناً أن المادة 16 من قانون حماية المستهلك تنص على أنه للوزير المختص إصدار قرار مؤقت لتحديد أسعار بعض المواد والخدمات لأسباب استثنائية، كحدوث أزمة بالمنتج، أو كارثة طبيعية، أو ما يماثلها، على أن لا تزيد مدة تطبيق القرار عن فترة معالجة هذه الحالة.

ضرورة العودة

في المقابل يجد البعض ضرورة العودة إلى نظام التسعير، نظراً لأن القطاع الخاص لم يلتزم بأمانة بدوره الوطني في ظل اقتصاد السوق الاجتماعي، معتبراً أنه على الحكومة متابعة تكاليف القطاع الخاص بإنتاج واستيراد السلع، وتحديد هامش ربح له، فبهذا يكمن دور الدولة بتأمين الجانب الاجتماعي للمستهلك، وعليها تحمل مسؤوليتها بعدم ضبط السوق خلال الفترة الماضية، فعندما نتمكن من تطبيق اقتصاد سوق حقيقي تنتفي العودة للتسعير، وما نعيشه الآن لا يمكن أن نطلق عليه اقتصاد سوق حقيقي، ويحتم العودة للتسعير، كون المنتجين والمستوردين من القطاع الخاص لديهم مزايا ودعم من الدولة إضافة إلى القوة الاحتكارية.

تقوية دور الدولة

إن تغيرات الأسعار في سورية لا تخضع للنظريات الاقتصادية أو لمتغيرات السوق العالمية إلا في اتجاه الصعود، ولتحقيق استقرار الأسعار لابد من تقوية دور الدولة في الأسواق بحيث يمكن التدخل بإجراءات اقتصادية فعالة، و ليس بإجراءات إدارية تطلب فيها من التجار تخفيض أسعارهم، وبالتالي لابد على الأقل من وجود تقديرات للعرض والطلب على السلع والتحرك قبل حدوث الأزمة، كما أنه لا بد من وجود سياسات على المدى الطويل تركز على استقرار الأسعار فآثار أي سياسة مالية ونقدية لن تظهر قبل ثلاث سنوات من بدء التطبيق.

إضافة إلى ضرورة تشجيع المنافسة من خلال تفعيل قانون المنافسة ومنع الاحتكار بحيث يضمن حماية المستهلكين، وعدم تركز القوى الاقتصادية بأيد قلة وتوزيع فعال للموارد في الاقتصاد لتأمين خيارات أكبر للمستهلكين.

ومن الأسباب غير القادرين على إثباتها في عدم استقرار الأسعار تتمثل بعدم وجود دور للدولة بشكل حقيقي في السوق، فهي موجودة نظريا فقط بالقانون، ولعل سبب عدم وجودها إلى يعود هيمنة كبار التجار على السوق، عبر الاحتكارات الضمنية والنوايا المبيتة.

أخيراً..

الهم الحقيقي للمستهلك غير المبالي بعدد الاتفاقيات التجارية الخارجية والشراكة مع الاتحاد الأوروبي وغير ذلك من البروتوكولات التجارية الدولية ما تقتضيه من اقتصاد محرر، فهمه يتمثل بضبط الأسواق المحلية واستقرار الأسعار لتأمين حاجياته الأساسية اليومية بما يتناسب مع دخله وإمكانياته، وهنا نؤكد أن الأسعار يوازنها السوق  ولا حل لضبطها إلا بالسوق ولكنها تحتاج إلى إدارة اقتصادية فعالة للتوازن بين العرض والطلب لاسيما أنه لدينا الإمكانيات لتنظيم الأمور وتخفيض التكلفة عبر زيادة الإنتاج المحلي وتشجيع الصادرات ودعم الاستهلاك المحلي عن طريق الدولة بالنسبة للسلع التي فيها حرج إلى جانب تفعيل المنافسة الحقيقية.