الأسرى بين الانتقام الإسرائيلي والرحمة الفلسطينية
تباينت معاملة الأسرى بين شريعتين مختلفتين، إحداهما صهيونية تشبّعت بروح الحقد والانتقام وسوء المعاملة، والأخرى فلسطينية تجلّت فيها الرحمة والإنسانية بأبهى صورها إلى حدّ ظهر فيه الأسرى الإسرائيليون وهم يبتسمون لرجال المقاومة ويلوّحون لهم بالودّ والسرور.
أسرت المقاومة الفلسطينية أكثر من مئتي إسرائيلي خلال عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول الماضي، وأعلنت أنها تريد مبادلتهم بأكثر من ستة آلاف أسير فلسطيني في سجون الاحتلال. وتعتقل “إسرائيل” في سجونها نحو 7800 فلسطيني، حسب بيانات رسمية فلسطينية، ومنهم أكثر من 3415 خلال الشهرين الماضيين فقط، وهذه الحصيلة تشمل من جرى اعتقالهم من المنازل وعبر الحواجز العسكرية، ومن اضطرّوا لتسليم أنفسهم تحت الضغط ومن احتجزوا كرهائن.
وبعد خسائر ميدانية فادحة في الأرواح والعتاد، قبلت “إسرائيل” بالدخول في هدنة مؤقتة مع المقاومة الفلسطينية يتخلّلها تنفيذ صفقة تبادل جزئي للأسرى، بواسطة عربية وبدعم من الولايات المتحدة الأمريكية.
ففي الدفعة الأولى من صفقة تبادل الأسرى الجزئية بين “إسرائيل” والمقاومة الفلسطينية تبادل المقاومون والمفرج عنهم من الإسرائيليين مشاعر الودّ في أثناء الوداع وظهر عنصر من رجال المقاومة يحمل سيدة إسرائيلية مسنّة كما لو أنها تربطه بها صلات قربى إلى أن أجلسها على كرسي داخل سيارة، ويصطحب برفق طفلاً صغيراً يرتدي ثياباً زاهية يفيض عليه بعطف الأبوّة.
ولقد اعترفت “إسرائيل” أن جميع الأسرى الذين أطلقت المقاومة سراحهم عادوا في وضعية صحية جيدة، وفي ظروف نفسية طبيعية. ما أكدته شهادات مسؤولين إسرائيليين في تل أبيب أنهم استقبلوا مجموعة من الأسرى الذين أفرجت عنهم المقاومة، وأنهم جميعاً في وضعية صحية جيدة.
وخلال الدفعة الثانية من صفقة تبادل الأسرى، وأمام الكاميرات ظهر الأسرى الإسرائيليون المفرج عنهم بصحة جيدة ويرتدون ملابس أنيقة، وظهرت فتيات وسيدات يبتسمن لرجال المقاومة ويلوّحن لهم بالودّ، وقد غمرهن الفرح وبدت ملامح الرضا والامتنان على وجوههم.
وفي أثناء تسليم الأسرى الإسرائيليين للصليب الأحمر، ظهر عناصر المقاومة يربّتون على الأطفال ويترفّقون بالمسنين، في فصل واضح بين صورة المقاوم الفلسطيني الشديد البأس في الميدان، وبين صورته كإنسان يعطف على الضعيف والصغير ويحترم الشرائع والمواثيق.
وفي هذا الإطار، اجتاح مشهد الإفراج عن أسيرة إسرائيلية نزلت مبتسمة من السيارة وهي تحتضن كلبها الذي رافقها خلال مدّة الاحتجاز، مواقع التواصل الاجتماعي في جميع أنحاء العالم، وما لهذا المشهد من دلالات عظيمة على رأفة رجال المقاومة بالمحتجزة وحيوانها الأليف، وقد كشفت النقاب عن حقيقة طالما حاولت الدعاية الإسرائيلية إخفاءها، وهي أن الظروف الصعبة التي تعيشها المقاومة في قطاع غزّة لم تتمكّن من تغييب الجانب الإنساني.
وكشفت شهادات الأسرى المفرج عنهم بعد عودتهم إلى مغتصباتهم، أن مشاهد تسليم الأسرى لم تكن عملاً دعائياً، بل كانت انعكاساً فعلياً للمعاملة الحسنة التي تلقوها منذ أن وقعوا في الأسر إلى أن أفرج عنهم. وقد أكدت حفيدة إحدى الأسيرات أن جدتها عادت من غزّة “جميلة ومشرقة” وفي وضعية صحية جيدة.
وفي شهادة مماثلة لذوي الأسرى، أكّدت أنهم لم يتعرّضوا لسوء في أثناء أسرهم، بل تمّت معاملتهم بطريقة إنسانية، خلافاً لمخاوفهم، حيث سمح لهم بمتابعة الراديو والتلفزيون، وكانوا على اطّلاع على مجريات الحرب.
وتحدّثت أسيرة إسرائيلية أفرجت عنها المقاومة عن المعاملة الحسنة، قائلة: “كانوا ودودين معنا وعالجوا رجلاً كان مصاباً بشكل سيّئ في حادث دراجة.. كان هناك ممرض يعتني به وأعطاه الأدوية والمضادات الحيوية”.
وأضافت: “كانوا ودودين وحافظوا على نظافة المكان وتناولنا الطعام سوياً. وعندما وصلنا قالوا إنهم مسلمون يؤمنون بالقرآن ولن يؤذونا. لقد كانوا كريمين للغاية وهذا يجب أن يقال”.
وفي المقابل، ومنذ هجوم المقاومة في السابع من تشرين الأول الماضي والقصف الإسرائيلي العنيف الذي أعقبه على غزة، أبلغ الفلسطينيون المحتجزون في السجون الإسرائيلية عن تدهور الأوضاع بما يشمل الاكتظاظ وفرض قيود على آليات الحصول على الطعام والماء ومحدودية الزيارات من الأسرة أو المحامين. وقال كثيرون: إنهم تعرّضوا للضرب والإساءة على أيدي الحراس بما في ذلك التهديد بالاغتصاب.
وعبّر مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان بالأراضي الفلسطينية المحتلة (الجمعة 1-12-2023) عن قلقه البالغ إزاء الزيادة الكبيرة في عمليات اعتقال “إسرائيل” للفلسطينيين ودعا إلى إجراء تحقيق في اتهامات بالتعذيب في أثناء الاحتجاز في “إسرائيل”.
وذكر بيان صادر عن المكتب أن “إسرائيل” اعتقلت أكثر من 3000 فلسطيني في الضفة الغربية المحتلّة بما يشمل القدس الشرقية منذ بدء الحرب على غزّة في أوائل تشرين الأول الماضي. وأضاف: إن عدداً قياسياً محتجز دون تهمة أو محاكمة.
وقال كثيرون: إنهم تعرّضوا للضرب المبرح بالهراوات والبنادق والغاز والأعيرة المطاطية والإساءة على أيدي الحرّاس بما في ذلك التهديد بالاغتصاب. وقد توفي ستة فلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وهو أكبر عدد من الوفيات في مثل هذه المدّة القصيرة منذ عقود.
وتحدّثت الأسيرات الفلسطينيات المحرّرات عن تعرّضهن لمعاملة سيئة في السجون الإسرائيلية تصل إلى حدّ الركل والضرب والحرمان من النوم والطعام والدواء. وفي حال طلب أحد الأسرى طبيباً، يكون الرّد الفوري من الجنود: من يطلب الخروج من القسم للعلاج سوف يتعرّض للضرب وسيموت.
وكذلك يمارس الإسرائيليون سياسة تجويع للأسرى بشكل عام، ووجبات الطعام التي تكفي أسيرين تقدّم لعشرة. فأحد جوانب القمع تقليص وجبات الطعام إلى أقل من الحد الأدنى. يعطون الأسرى طعاماً لكي يبقوا فقط واقفين على أقدامهم، ولكي لا يموتوا من الجوع.
وتحدّث الأطفال الفلسطينيون الأسرى المحرّرون عن تعرّضهم للضرب والتجويع، وتعمّد الاحتلال إذلالهم وإهانتهم حتى في لحظات الإفراج عنهم.
معاناة الأطفال المحرّرين في السجون الإسرائيلية يجسّدها الطفل محمد غازي محمد نزال كأنموذج يختزل وضع الأسرى في سجون الاحتلال. ففي سجن النقب مثلاً تتصدّر قصة الطفل محمد غازي محمد نزال، ذي الـ18 عاماً، الأسير المحرّر، الذي لفت الأنظار بخروجه من سجن النقب في الداخل المحتل بضمادات أسعفه بها عناصر الصليب الأحمر لمعالجة الكسور التي طالت أصابع يديه اليمنى واليسرى بسبب التعذيب بالعصيّ الحديدية؛ إذ وجّه الطفل صرخة لإنقاذ الأسرى القابعين بالسجن الشديد الحراسة بصوت يشبه الأنين كشف خفايا ما تعرّض له قبل الخروج.
وفي هذا الصدد تقول منظمة العفو الدولية: إن “شهادات المعتقلين المفرج عنهم ومحامي حقوق الإنسان، فضلاً عن لقطات الفيديو والصور توضّح جانباً من أشكال التعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة التي تعرّض لها المعتقلون على أيدي القوات الإسرائيلية خلال الأسابيع الماضية”.
وتشمل هذه الانتهاكات، وفقاً لتقرير العفو الدولية، “الضرب المبرح وإذلال المحتجزين، بما في ذلك إجبارهم على إبقاء رؤوسهم محنية والركوع على الأرض في أثناء تعداد السجناء وإرغامهم على غناء أغانٍ مؤيّدة لإسرائيل”.
وفي السياق نفسه، قالت منظمة العفو الدولية، في تقرير لها يوم 9 تشرين الثاني: إن “السلطات الإسرائيلية كثّفت على نحوٍ واسع استخدام الاعتقال الإداري، وهو شكل من أشكال الاحتجاز التعسفي، ضدّ الفلسطينيين في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة”.
إن لحظة تبادل الأسرى جاءت لتميّز بين شريعتين متصارعتين تماماً، فالمقاومة التي تُنعت بالإرهاب تعامل أسراها من الإسرائيليين الذين أفرجت عنهم بطريقة غاية في الاحترام والتواضع واللطف، في حين يعامل الاحتلال من أفرج عنهم من الفلسطينيين في منتهى القسوة والغلظة.
د.معن منيف سليمان