الشاعر العراقي فايز حداد: قصيدة النثر هي السائدة في المستقبل
أمينة عباس
لم تكن الأسئلة التي طرحتها الكاتبة رنا محمود على الشاعر العراقي فايز حداد، ضمن حوار أجرته معه، مؤخراً، في المركز الثقافي العربي بـ”أبو رمانة” إلا فرصة مناسبة للحديث عن قصيدة النثر التي فرّقت صفوف الشعراء في الستينيات، وخاضوا حولها معارك هدأت في زمننا هذا، إلا أنها ما تزال مثار جدل ونقاش حتى الآن، وبيّنت محمود في تصريحها لـ”البعث” أن الشاعر فايز حداد حمل على كتفي قصيدته وفي قلبها حزن العراق وأشجان البلاد العربية والهمّ الإنساني، وخلق من روحه المتوثبة فرح النص المختلف، فكان الحداثي المتفرد في كلّ ما كتب، وصار مدرسة لقصيدة النثر المتمردة، مشيرة إلى أنه لُقب بـ”العرّاب”، وهو يُعدُّ الشّاعر الأكثر حظوة بين معاصريه من الشعراء في الدراسات النقديّة والحوارات الأدبية والصحفية عربياً.
من دون قيود
بدأ الحوار بإلقاء فايز حداد مجموعة مقاطع شعرية من أعماله، وأوّلها “ورود غزة”: حين تهجيت اسم غزة/ ترجل الليل من على كتفي/ وساق النجوم خيولاً بيضاء/ سألني عن سر الشمس في عيون الأطفال/ وعن الفتوح في قوافل العرب/ فلاحت دمشق بعيونها الخضراء/ تحمل راية القدس بأصابع من ذهب.
البيان الشعري الأمثل
وبيّن الشاعر حداد في ردّه على الأسئلة التي طرحتها محمود أنه مع الرأي الذي يقول إن قصيدة النثر لها امتداد تاريخي أبعد من قصيدة العمود، لذلك فإن تبنيها والكتابة فيها عودة إلى الجذور، وغالبية الذين كتبوا النثر هم شعراء عموديون في الأصل، مع إشارته إلى أنه بدأ بكتابة الشعر العمودي، لكنه، ومنذ التسعينيات انحاز إلى قصيدة النثر، وهو المؤمن بأن ظهورها كان ضرورة لتتجدّد قصيدة العمود من داخلها، مضيفاً أن قصيدة النثر هي البيان الشعري الأمثل في النظام الشعري لأنها احتفلت بالشعرية كاملة من دون قيود وشروط، وهذا ما جعله يلجأ إليها ويستطيب المقام فيها بعد أن أمضى سنوات طويلة مع القصيدة العمودية التي وإن كانت ديوان العرب برأيه إلا أن ذلك كان لا يمنع من وجود جنس شعري آخر إلى جانبها، وتالياً فإن وجود قصيدة النثر بالنسبة له أمر مشروع كمشروع حداثي، لكنه لا يلغي وجود القصيدة العمودية كما يظن الذين يعدون أن التجريد الشعري بعيد عن تراث الشعر العربي، يقول: “لا يمكن لأي مشروع أن يلغي المشروع الذي قبله، ولا حداثة من دون أصالة، ولا أصالة من دون حداثة، ولاسيّما في قصيدة النثر”.
النقد العربي متراجع
كما لم يخفِ حداد أن النقد عربياً متراجع عن النص، وهو ليس عبارة عن كتابة تسجيلية عن نص، بل موهبة مثل موهبة الشاعر، فالنص النقدي الذي يصدر عن النص الشعري هو نص يتجاوزه، يقول: “حين يكتب الناقد نقداً حقيقياً يقوم بفكّ مغاليق النص، ومن لا يستطيع فعل ذلك يبقى يدور حول النص وليس فيه”، موضحاً أن هناك قراءة ساذجة تتناول النص، وهناك قراءة استعمالية فاحصة تفهم، وأخرى قراءة نموذجية منتجة هي النقد، وهو يراهن عليها لأنه ليس مسؤولاً عن أمية القراءة عند الآخرين، لذلك هو مع من يقول إن الشعر يُكتب للنخبة.
وختم حداد حواره بتأكيد أن أولى مسلّمات تكوين الشاعر الفطرة والفكرة، فالفطرة حيث الموهبة، والفكرة حيث الثقافة، وبخلافهما لا شعرية هناك.
قصيدة النثر ليست سهلة
وأوضح الناقد الدكتور غسان غنيم في مداخلة له أثناء الحوار بعض الأفكار التي لها علاقة بقصيدة النثر، ولاسيما الأسس التي بُنيت عليها، وأهمها أن قصيدة النثر لا تنفي الفكرة وإنما تقوم على لغة جديدة، صياغتها مختلفة، وتعتمد على الانزياح، وتالياً على الصورة العنقودية والتكثيف وعدم الاستفاضة، مؤكداً أن القصيدة يجب أن تكون مليئة بانسيابية اللغة والنص، إلى جانب أن يكون في النص رابط أساسي يعيد الموضوعات الصغرى التي تتفرع من الموضوع المحوري إلى هذا الموضوع المحوري، مع إشارته إلى أن القصيدة النثرية يجب أن تتمتّع أيضاً بالخيال والقدرة على رسم الصورة الشعرية رسماً مغايراً يقوم على الإدهاش، موضحاً أن قصيدة النثر تفتقد إلى مقومات أساسية موجودة في القصيدة العمودية، من هنا لا بدّ من تعويض قصيدة النثر الناجحة بالموسيقا من خلال البعد عن الهدر ورسم الصورة، وهذا نلاحظه لدى كتّاب قصيدة النثر الأكثر تميزاً مثل أدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط، وغيرهم الكثير ممن كتبوا قصيدة النثر التي كانت أكثر قدرة وجمالاً وانسيابية، بعيداً عن كل ما له علاقة بالترهل اللغوي، منوهاً بأنه مؤمن بسيادة النثر وبأن قصيدة النثر ستكون هي السائدة في المستقبل، مع تأكيده أن الشعر إذا كان يمتلك الحالة الشعرية الحقيقية بأي نمط من الأنماط يكون شعراً حقيقياً متميزاً له حضوره الآسر في الساحة الشعرية والثقافية بشكل عام، مبيناً أن قصيدة النثر أصعب بكثير من القصائد الأخرى لأنها يجب أن تُكتَب من خلال رؤيا شاملة تحاول تفسير الكون والمجتمع والوجود وتحقق الدهشة للمتلقي. ورأى غنيم أن قصيدة النثر أقرب ما تكون إلى قصيدة القراءة، فهي ليست قصيدة تلقى فوق المنابر على الرغم من أن هناك الكثير من النصوص قادرة على فعل ذلك، وهي للشعراء الأكثر قدرة على الإبداع في قصيدة النثر.
وختم غنيم مداخلته بالإشارة إلى أنه حاول أن يبيّن أن قصيدة النثر ليست بالسهولة التي يتوقعها البعض، لأنها تريد أن تعوّض عن قضية الإيقاع المتوازن الذي يخرج من خلال الوزن الذي نعرفه من خلال العروض.