مجلة البعث الأسبوعية

“إذا كان عليّ أن أموت”.. الشهيد رفعت العرعير في رسائل صوتية أخيرة رصدت حرب إعادة غزة 50 عاماً إلى الوراء

“البعث الأسبوعية” ــ لينا عدره

“مرحباً رفعت، أردت فقط أن أعرف أحوالك أنت وعائلتك..”. الرسالة الأخيرة التي تم إرسالها إلى رفعت العرعير في 6 كانون الأول لم يتم الرد عليها. في اليوم التالي، نشر عدد من المعارف على وسائل التواصل الاجتماعي خبر استشهاد الشاعر والكاتب والأكاديمي والناشط الفلسطيني الشهير رفعت العرعير، والأب لستة أطفال، رفعت العرعير، خلال القصف الإسرائيلي على مدينة غزة. أكد صديق مقرب له في وقت لاحق أن العرعير استشهد في المنزل الذي كان يلجأ إليه، وأن أخاً وأختاً وأربعة من أبنائه لقوا حتفهم أيضاً في قصف قوات الاحتلال، وقيل أيضاً أن زوجة العرعير مع طفلين له بخير.

قبل يومين من استشهاده، نشر العرعير على موقع X (تويتر سابقاً) أنه عاد للتنقل من جديد بسبب القصف المكثف على حي الشجاعية، وأعرب عن قلقه على العديد من الأطفال والأقارب المحاصرين هناك. وفي مقابلة مع صحيفة “الباييس” الإسبانية، قال العرعير: “إنهم يعيدون غزة مائة وخمسين عاماً إلى الوراء”، وقال إن المجتمع الدولي “متواطئ في الإبادة التي تقوم بها إسرائيل”. وبسبب مشاكل في الاتصال، أرسل الأستاذ للصحيفة رسائل صوتية مسجلة مع أصوات القنابل الإسرائيلية والطائرات بدون طيار في الخلفية.

العرعير، أستاذ الأدب في الجامعة الإسلامية في غزة، حذر قبل شهر من استخدام إسرائيل لـ “الجوع كسلاح حرب”. ومع دخول قطاع غزة الشهر الثالث من الحرب، قال العرعير: “إن سكان غزة يموتون من الجوع”.. “لدينا القليل جداً من الطعام والماء بسبب الحصار الإسرائيلي. إنها إبادة منهجية، تطهير عرقي للفلسطينيين في غزة.. إنه استمرار للتطهير العرقي الإسرائيلي الذي بدأ قبل أكثر من 75 عاماً”، في إشارة إلى النكبة عام 1948.

 

تحت الحصار

وصف العرعير الحياة في غزة تحت الحصار، والذي أدى في نهاية المطاف إلى استشهاده، بأنها صراع يومي من أجل الحصول على أبسط الاحتياجات الأساسية. كتب: “صديقة لي يائسة تعطي أطفالها مشروبات الطاقة بسبب نقص المياه. وأضاف أن الكثير من الناس يصابون بالمرض بسبب استهلاك المياه الملوثة. “لدينا عدد قليل من علب الطعام المتبقية التي يمكن أن تكفي لمدة أسبوع على الأرجح. نحن نأكل أقل من ربع ما اعتدنا عليه. لم أستحم منذ 10 أيام لتوفير المياه، و90% من مياه غزة غير صالحة للشرب.. لقد هاجمت إسرائيل كل ما نحتاجه للبقاء على قيد الحياة: المخابز وسيارات الإسعاف ومنظمات الأمم المتحدة والمدارس والجامعات والمستشفيات والطرق والطاقة وخطوط المياه”.

 

يؤرخ للتجربة الغزية

إلى جانب دوره في تدريس الأدب الإنجليزي في الجامعة الإسلامية بغزة، كان العرعير معروفاً بعمله الذي يؤرخ للتجربة الغزية. وبالإضافة إلى كتاباته الخاصة، التي نشرها في وسائل إعلام أجنبية، قام أيضاً بتحرير “غزة تكتب مرة أخرى”، وهي مختارات من القصص القصيرة لكتاب فلسطينيين شباب نُشرت في عام 2014، وشارك في تحرير “غزة تكتب”، و”غير صامت”، وهي مجموعة من المقالات والتقارير والصور والأشعار التي تم نشرها في العام التالي.

بالنسبة للعديد من الفلسطينيين، كان العرعير أنموذجاً يحتذى به ومرشداً. شارك في تأسيس “نحن لسنا أرقاماً”، وهي منظمة غير ربحية تأسست لتطوير جيل جديد من الكتاب الفلسطينيين من خلال إقرانهم بمرشدين في الخارج لمساعدتهم على كتابة القصص باللغة الإنجليزية. كتب الكاتب الفلسطيني جهاد أبو سليم، في رثاء مدرسه السابق: “كان شغفه هو اللغة الإنجليزية، لكنه لم يعلمها كوسيلة للانفصال عن المجتمع”.. “بالنسبة لرفعت، كانت اللغة الإنجليزية أداة للتحرر، وطريقة للتحرر من حصار غزة الطويل، وجهاز نقل فوري يتحدى أسوار إسرائيل والحصار الفكري والأكاديمي والثقافي المفروض على غزة”.

 

معلق بارز

بالنسبة للعالم الأوسع، كان العرعير معلقاً بارزاً، و”استفزازياً” في بعض الأحيان، حول الشؤون الفلسطينية. وفي 7 تشرين الأول، أثار غضباً خلال مقابلة أجرتها معه هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) دافع فيها عن عملية “طوفان الأقصى”، ووصفت المذيعة فيما بعد التعليقات بأنها “مسيئة”. وقد انتقدت الصحافة الإسرائيلية تصريحاته العلنية، وتردد بأن مواقفه “المثيرة للجدل” على وسائل التواصل الاجتماعي دفعت إسرائيل إلى تنفيذ الهجوم “المتعمد” على حياته، كما قال بعض أصدقائه.

 

رسائل “الواتس آب”

كان استشهاد العرعير بمثابة النهاية المفاجئة لتقاريره على وسائل التواصل الاجتماعي ومقابلاته مع وسائل الإعلام المختلفة. كان لديه الكثير ليقوله عن المجتمع الفلسطيني، وصموده في وجه الحرب الأكثر دموية وتدميراً التي ضربت القطاع في الذاكرة الحية، وعن إيمانه الدائم بروح السخاء والكرم، حتى في أحلك اللحظات، وبكلماته الخاصة.

كان يلجأ في كثير من الأحيان إلى إرسال رسائل صوتية مسجلة عبر تطبيق واتساب عند انقطاع الاتصالات: “أنا مختبئ حالياً مع عائلتي وبعض الأقارب. اضطررنا إلى الانتقال عدة مرات بعد أن تعرض منزلنا للقصف قبل أسبوعين. كان معنا نحو 30 شخصاً، بينهم 25 طفلاً وامرأة. بحثنا عن مأوى في إحدى المدارس، ولكن كان علينا أن ننتقل. ومن المؤسف أن صاروخاً قتل إحدى الجيران وابنتيها في مطبخهم أثناء قيامهم بإعداد الغداء.

 

لم نفشل ولم نفقد إنسانيتنا

في رسائل أخرى، يصف العرعير: كان المجتمع الفلسطيني، وخاصة في غزة، قويا دائماً. هناك دائماً هذا الشعور القوي جداً بالمجتمع، والمسؤوليات المشتركة، والأشخاص الذين يعتنون بأفراد الأسرة، وحتى أفراد الأسرة البعيدين. هذا جزء من قيمنا، وجزء من عاداتنا وتقاليدنا، ليس فقط كمسلمين، بل أيضاً كعرب، كفلسطينيين.

“حتى على مستوى الأطفال والصغار، لم أر أطفالاً في مثل هذا الانسجام من قبل – يلعبون معاً ويتشاركون أي دمى وألعاب. يمكنهم القتال، ويمكن أن يكونوا أشقياء في بعض الأحيان. لكنهم لم يكونوا بهذا الانسجام من قبل.. لم أر هذا من قبل”.

“إن الشعور بالانتماء للمجتمع، والشعور بالاجتماع معاً، وأننا جميعاً يمكن أن نقتل في أي لحظة – هذا الشعور يقربنا أكثر فأكثر. هذا ليس لإضفاء طابع رومانسي على الحرب. الحرب فظيعة. هذا الإحساس بالهلاك، الإحساس بالموت القادم والبارود والقصف المتواصل. أنا أتحدث والدبابات ربما تكون على بعد 300 أو 400 متر من مكان تواجدنا في مدينة غزة. يمكن أن نموت في أي وقت.

لكننا نتمسك بإنسانيتنا، وهذا ما أقوله دائماً. وهذا يمكن أن ينتهي بتدمير غزة. لقد وعد الإسرائيليون بإعادة غزة 150 عاما إلى الوراء، لتحويلها إلى مدينة خيام. قد ينتهي بنا الأمر إلى النزوح؛ نكبة ثانية، نكبة أفظع من النكبة الأولى، لأنها تُبث على التلفاز، وتُبث عبر الإنترنت، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.. كفلسطينيين، بغض النظر عما سيحدث، فإننا لم نفشل. نحن بذلنا قصارى جهدنا. ولم نفقد إنسانيتنا”.

 

طائرات بدون طيار

“الليلة الماضية [5 تشرين الثاني]، شهدنا أسوأ ليلة لنا حتى الآن. لقد قصفوا على بعد عشرة أمتار فقط من المكان الذي كنا نقيم فيه. عادة ما تكثف إسرائيل القصف ليلاً.. الليالي في غزة هي جحيم مطلق”. في اليوم السابق، قال العرعير إن إسرائيل عزلتهم، وأحاطتهم بإرهاب لم يعرفوا مثله من قبل في غزة.

في بعض الأحيان، كان صوت العرعير ينقطع ليحذر الناس من تحليق الطائرات بدون طيار فوق المنزل، وهو ما وصفه بأنه اعتداء نفسي: “إنه لأمر ينفطر القلب له أن أرى الأطفال يعانون أكثر من غيرهم. صراخ ودموع.. إنه لأمر طاغ، وكل ما أريد فعله هو البكاء. أنا أب ومعلم أيضاً. لدي 200 طالب أهتم بهم. أبذل قصارى جهدي لحمايتهم وتوفير كل ما يحتاجون إليه. لكن عندما يتعلق الأمر بحماية نفسي، أشعر بالعجز. كيف يمكنني حماية أطفالي؟ أين من المفترض أن نذهب؟”.. كان يسأل نفسه وهو يعلم أنه ما من إجابة.

لقد توعد الإسرائيليون بتدمير غزة، وتحويلها إلى مرآب للسيارات المحترقة ومدينة خيام.. علق العرعير: “إنهم يريدون دفع الفلسطينيين إلى البحر وإلى صحراء سيناء.. إجبار أهالي غزة على الدخول إلى مصر”. يعتقد العرعير أن إسرائيل تنوي القيام بأكثر من مجرد القضاء على المقاومة: “إنه نهج، فقد استشهد 90% من الناس في منازلهم أثناء نومهم. إسرائيل تطرد البشر من منازلهم، فيذهبون إلى المدارس بحثاً عن ملجأ. ولكن بعد ذلك تقصف المدارس، فينتهي بهم الأمر في المستشفيات، لكن إسرائيل تقصفها أيضاً”.

 

على طريقة العرب

أذكر أنه خلال الأيام الأولى للإبادة الجماعية، ذهبت إلى أحد المتاجر واشتريت الحليب المجفف. قال آخر: هل لي بواحدة من هذه؟ قال صاحب المتجر: “آسف، هذه الأخيرة”. وكدنا أن نتقاتل. قلت له: لا، أنت تأخذها. فقال: “لا أستطيع ذلك”، قلت: “لدي واحدة في المنزل. أرجوك خذها”. يجب أن تكون على دراية بالطريقة التي يتقاتل بها العرب دائماً مع أمين الصندوق في المطاعم، ويضربون بعضهم البعض حتى يدفعوا. كان جميلاً أن يصر الرجل على أنه لن يأخذها، وأنا أصر على إعطائها له. لكنه رفض ذلك، رفض بأدب في النهاية.

عندما قصفت بنايتنا، كنا في المنزل. لم يكن هناك أي إنذار مسبق، واضطررنا إلى الفرار، بعضنا حفاة الأقدام. لقد أمسكنا للتو بالحقيبة، الحقيبة الشهيرة في غزة التي تضعها العائلات بالقرب من الباب في كل حرب، والتي تحتوي على وثائق مهمة وأموال ونقود وذهب نسائي، وما إلى ذلك. لذلك هربنا بلا شيء ولا طعام. تركنا كل شيء: الدقيق، وغاز الطهي، والبيض، والأغذية المعلبة، وذهبنا بلا شيء إلى مأوى المدرسة، وكان الناس يرحبون بنا على الرغم من وجود عدد كبير جداً منهم.

قبل ثلاثة أيام، كان هناك قصف مروع هنا. نزلت بسرعة إلى الطابق السفلي، وكانت هناك امرأة ومعها طفلان كانا يبكيان. توقفت وأخذت تمرتين وأعطيتهما للأطفال. تفاجأت المرأة وصمت الأطفال؛ لم يعودوا يبكون. أعتقد أنه معد. فعل الخير معد. يجعلك تشعر بالإنجاز. إنها مجزية الطريقة التي تساعد بها الآخرين. وتجعل الآخرين يساعدون الآخرين. وهذا ما أريده – أن يكون هذا معدياً بالمعنى الإيجابي. وأرى الناس يفعلون هذا طوال الوقت.

كان هناك شجار آخر كنت على وشك خوضه مع سائق سيارة أجرة. كما تعلمون، في غزة، لا يمكنك ركوب سيارة أجرة واحدة بمفردك. إنه مثل تجمع “أوبر”. لذلك تستقل سيارة أجرة ويستمر في نقل الركاب على الطريق. في أحد الأيام، كنت في سيارة أجرة، وسافرنا لمدة خمس دقائق، وكانت هناك أم وابنتها. لكن قبل أن تدخلا قالتا: “.. ليس معنا المال”. ومن دون تردد قال السائق: تعالي. وفي الوقت نفسه، قلت: “سأدفع لهما”. دلفتا إلى الداخل.. قال السائق: “لا، لا يمكنني أخذها منك”. قلت: “من المستحيل ألا أدفع لك لأنني أعرف أن الوقود أصبح باهظ الثمن الآن”. وأصر وأصريت، وطبعا دفعت.

 

عن الأزمة الإنسانية

إن الضغط والجوع والحاجة إلى الماء، تجعل من الصعب على الناس أن يكونوا على طبيعتهم وأن يكونوا كرماء. وأعتقد أنها ستنمو أكثر فأكثر في الأيام المقبلة. نأمل ألا يصل الأمر إلى هناك. لكن الناس يتضورون جوعا ويقننون حرفيا. عندما كنت في المنزل، كنا نقتصد، نأكل ربعاً ونشرب ربع ما نفعله عادةً. الآن نأكل أقل ونشرب أقل. ولكن من المستحيل ذلك مع الأطفال. أنا شخصيا فقدت حوالي خمسة كيلوغرامات، ولكن لا يهمني. يمكنني تناول تمرة واحدة لمدة 10 أو 15 ساعة. أنا شاب. ولكن كيف تخبر طفلك أنه لا يستطيع أن يأكل، ولا يستطيع أن يحصل على ما يريد، ولا يستطيع أن يشرب ما يكفي؟ وأظل أقول لأطفالي: “اشربوا أقل، تناولوا طعاما أقل”.

 

“معظم الناس – أود أن أقول غالبية الناس – يشترون طعاماً يكفي لمدة أسبوع كحد أقصى، ويتركون الباقي للآخرين. وفي كل مرة كنت أذهب إلى متجر، كنت أقول شخصياً بصوت عالٍ: “كم عدد هذه العلب المسموح لي بشرائها؟” في بعض الأحيان، يندهش أصحاب المتاجر من سؤال شخص ما. ظللت أكرر أنني لا أريد الاكتناز. لا أريد أن أثير الذعر بين الناس، ولا أريد أن أشتري إلا ما يكفي”.

 

عن تقديم المساعدة المالية

خلال الحروب، يقترب الناس من بعضهم البعض. على المستوى الشخصي، حدثت أشياء كثيرة لي ومن حولي – أشياء رأيتها، وأشياء مررت بها، وأشياء ساهمت فيها شخصياً كشخص لديه المال. مالياً، تأكدت من أن أفراد عائلتي من حولي لديهم ما يكفي لإعالة أنفسهم. الشيء نفسه مع والدي. لقد تأكدت أيضاً من أن أصدقائي ومن حولي لا يحتاجون إلى المال، وأنهم لا يستطيعون شراء الأشياء لأنهم لا يملكون المال.

كما عرضت على [طلابي] مساعدة مالية. لكن ليس من السهل إعطاء المال للناس الآن. البنوك وأجهزة الصراف الآلي مغلقة. ولكن ما فعلته هو إخبار الناس أنه إذا كنت بحاجة إلى رصيد الهاتف المحمول للاتصال بأشخاص، أو للاتصال بعائلتك أو أصدقائك أو لشراء بعض حزم الإنترنت، فما عليك سوى الاتصال بي. أعتقد أنني قمت بتحويل الأموال إلى حوالي 15 رقم هاتف محمول. إنه شيء أفتخر به، وأعرف أن هناك أشخاصاً آخرين يفعلون ذلك، أشخاصاً لديهم إمكانية الوصول إلى الإنترنت وحساب مصرفي عبر الإنترنت.

 

إذا كان عليّ أن أموت

قبل أيام من استشهاده، نشر العرعير قصيدة تتنبأ فيها بأنه قد يُقتل، بعنوان “إذا كان عليّ أن أموت”. وفي الأيام التي تلت وفاته، انتشرت القصيدة بسرعة كبيرة، مما أدى إلى ترجمتها إلى عشرات اللغات.