اليستر كروك وتأملات استراتيجية من موسكو
هيفاء علي
من وجهة نظر اليستر كروك، رجل الاستخبارات البريطانية السابق، وصلت العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، والوضع أسوأ ممّا هو متصوّر. ومن خلال التحدّث مع كبار المسؤولين الروس، فمن الواضح أن الولايات المتحدة تتعامل مع روسيا كعدوّ.
وأضاف كروك: إن هذه الفجوة تتزايد بسبب افتقار الزعماء السياسيين الأوروبيين إلى الحس السياسي، حيث من الصعوبة إجراء مناقشة موضوعية معهم، والمسؤولون الروس يدركون مخاطر هذا الوضع، لكنهم لا يعرفون كيفية إصلاحه. ومن المسلّم به أن “حرب المعلومات” الشنيعة المتعمّدة تسيطر عليها بالكامل الصحافة الغربية، الأمر الذي لا يؤدّي إلا إلى تأجيج الأجواء. وعلى الرغم من وجود وسائل الإعلام الغربية البديلة المتناثرة التي تنمو من حيث الحجم والأهمية، فإنه ليس من السهل تعبئتها فهي متنوعة وفردية، موضحاً أن روسيا تدرك تماماً أن الغرب يعيش حالياً في “وضع طبيعي زائف”، وهي فترة فاصلة في حربه الثقافية. ومع ذلك، يرى الروس أوجه تشابه واضحة مع تجربتهم الخاصة مع الاستقطاب المدني الراديكالي، عندما طالب مجلس النواب السوفييتي بالامتثال لـ”خط” الحزب أو مواجهة العقوبات، ومضيفاً: إن موسكو منفتحة على الحوار مع الغرب، ولكن حتى الآن لا يمثل المتحاورون سوى أنفسهم وليس لديهم أي تفويض، وبالتالي لا جدوى من “ضرب رأسك” بحائط القيادة الإيديولوجية الغربية، فالقيم الروسية مجرد قطعة قماش حمراء في وجه “الثور” الأيديولوجي الغربي. ولكن ليس من المؤكد أنه عندما يحين الوقت، سيكون هذا الغرب محاوراً قادراً على الالتزام.
ومع ذلك، ينظر إلى العداء المتوقع من جانب الغرب تجاه روسيا باعتباره يحمل جوانب إيجابية، ولكنه يحمل أيضاً مخاطر جسيمة، كغياب المعاهدات بشأن استخدام الأسلحة ونشرها. ويشير المحاورون إلى أن ازدراء الغرب للروس وعداوته الصريحة، سمح لروسيا في نهاية المطاف بالتحرّك إلى ما هو أبعد من إضفاء الطابع الأوروبي على بطرس الأكبر. وبات يُنظَر الآن إلى هذه الحلقة الأخيرة باعتبارها تحوّلاً عن مصير روسيا الحقيقي.
ولفت كروك إلى أن العداء الذي أبداه الأوروبيون تجاه الشعب الروسي دفع روسيا إلى أن “تصبح أقوى مرة أخرى”، وهو الأمر الذي كان مفيداً للغاية لها، ومع ذلك، من الواضح أن “الصقور” الغربيين يقومون باستمرار بمسح المشهد الروسي من أجل تحديد موقع مضيف داخل الجسم السياسي لإدخال جراثيم نظامهم الأخلاقي الجديد المسلّح بهدف اختراق المجتمع الروسي والعمل على تجزئته.
حتماً، يثير الارتباط الصريح بالثقافة الغربية بعض الحذر داخل “التيار الوطني” المهيمن في روسيا، تحديداً في موسكو وسانت بطرسبرغ، الذي يميل أعضاؤه نحو الثقافة الأوروبية، ويشعرون ببعض التوتر، في حين أن روسيا تتطوّر نحو هوية جديدة و”طريقة جديدة للوجود”، بينما يرى الأوروبيون أن معاييرهم تتراجع.
وبشكل عام، يُنظر إلى هذا التغيير على أنه أمر لا مفرّ منه، وأنه أدّى إلى نهضة روسية حقيقية وشعور بالثقة، وقيل: إن إحياء الدين بدأ فعلياً بشكل عفوي، مع إعادة فتح الكنائس بعد نهاية الشيوعية، حيث تم بناء العديد من الكنائس الجديدة، وهناك حوالي 75٪ من الروس يطلقون على أنفسهم اسم الأرثوذكس اليوم. وهناك قلة من المحاورين أبدوا أسفهم على “الليبراليين الروس” العلمانيين الذين غادروا روسيا، رغم أن بعضهم عاد. وهناك عنصر هنا يتلخّص في تطهير المجتمع من “التغريب” الذي شهدته القرون السابقة، رغم أن التناقض أمر لا مفر منه، فالثقافة الأوروبية على الأقل من حيث الفلسفة والفن، كانت، ولا تزال، عنصراً أساسياً في الحياة الفكرية لكنها على وشك الاختفاء.
وفيما يتعلق بالمجال السياسي، يشرح كروك أنه ليس من السهل التعبير عن الشعور الذي اندمج به النصر “المطلق” الذي حقّقته روسيا في أوكرانيا مع فكرة الإحياء المستمر لحسّ روسيا الجديد بالهوية. لقد كان النصر في أوكرانيا يعادل على نحو ما المصير الميتافيزيقي باعتباره شيئاً مؤكداً ومتكشفاً، بينما يلتزم القادة العسكريون الروس (وهو أمر مفهوم) الصمت بشأن النتيجة البنيوية/المؤسسية المحتملة. ومع ذلك، فإن المناقشات (على أجهزة التلفزيون) تركّز بشكل أكبر على الخلافات والانقسامات التي تمزق كييف أكثر من تركيزها على تفاصيل ساحة المعركة، كما كان الحال حتى الآن.
وأكّد أن الناتو تعرّض لهزيمة كاملة وساحقة في أوكرانيا، ربما كان حجم وعمق فشل حلف شمال الأطلسي قد فاجأ روسيا، إلا أنه يُنظَر إليه باعتباره شهادة على قدرة روسيا على التكيّف والإبداع التكنولوجي في مجال التكامل والتواصل فيما يتصل بجميع الأسلحة، مضيفاً: إن المسؤولين الروس يرون أن الحروب بين أوكرانيا “وإسرائيل” والشرق الأوسط تتضافر لتقسيم الغرب إلى مجالات متعارضة ومتضاربة، ما يؤدّي به إلى التشرذم وعدم الاستقرار المحتمل، بينما تواجه الولايات المتحدة انتكاساتٍ وتحدياتٍ من شأنها أن تكشف بشكل أكبر فقدان الردع، ما يؤدّي إلى تفاقم قلق الأميركيين بشأن أمنهم.
وفيما يتعلق “بإسرائيل” يرى كروك أن موسكو تعرف مدى التغيّر الذي طرأ على روح العصر السياسي في “إسرائيل” في أعقاب الحكومة المتطرّفة التي تشكّلت بعد الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، وبالتالي الحدود التي نتجت عن ذلك بالنسبة للمبادرات السياسية من جانب الدول الغربية، وهي تراقب بعناية خطط “إسرائيل” في جنوب لبنان، مضيفاً: إن روسيا تنسّق مع الدول الأخرى لتجنّب الانزلاق إلى حرب كبيرة. وحسبما ورد، ركّزت زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى موسكو على الاتفاقية الاستراتيجية العالمية التي يجري التفاوض بشأنها حالياً، وتضمّنت بشكل خاص التوقيع على وثيقة بشأن مكافحة العقوبات الغربية المفروضة على الدولتين.
أما بالنسبة للنظام العالمي الناشئ، فيقول كروك: إن موسكو سوف تتولّى رئاسة بريكس في كانون الثاني 2024، وهذه فرصة هائلة لبريكس لتأسيس عالم متعدّد الأقطاب في وقت يتسم فيه بإجماع جيوسياسي واسع النطاق في الجنوب العالمي. وترى موسكو الفرصة التي تتيحها رئاستها، ولكنها تدرك تمام الإدراك أن دول بريكس بعيدة كل البعد عن التجانس.
وعندما يتعلق الأمر بالحروب التي تخوضها “إسرائيل” ضد غزة وجنوب لبنان، فمن من المرجّح أن تتصرّف روسيا بحذر في العدوان الإسرائيلي الراهن على قطاع غزة والضفة الغربية، بغية الحفاظ على تماسك “بريكس”.
بالمجمل، سوف تنشأ بعض الأشكال المهمّة من الإبداع الاقتصادي والمالي من رئاسة روسيا لمجموعة بريكس.
وفيما يتعلق “بمشكلة الاتحاد الأوروبي” التي تواجهها روسيا، يرى كروك أن الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، عملا على تطوير الجيش الأوكراني ليصبح واحداً من أكبر جيوش حلف شمال الأطلسي وأفضلها تجهيزاً في أوروبا.
وفي أعقاب رفض مقترحات التسوية الأوكرانية الروسية في آذار 2022 من بوريس جونسون وبلينكن، ومع حتمية نشوب حرب أطول وأكثر حدّة، قامت روسيا بتعبئة وإعداد سلاسل التوريد اللوجستية الخاصة بها. ومع ذلك، فإن زعماء الاتحاد الأوروبي يتحرّكون الآن نحو “إغلاق الحلقة” من خلال إبراز هذا التوسع العسكري الروسي، وهو في حدّ ذاته ردّ فعل على الوجود المكثف لحلف شمال الأطلسي في أوكرانيا، كدليل على خطة روسية لغزو أوروبا القارة.
لقد أثير شبح الإمبريالية الروسية لإثارة الخوف بين السكان الأوروبيين وللقول: إن أوروبا يجب أن تسخّر الموارد لإعداد لوجستياتها لحرب مستقبلية مع روسيا، وهذا تطوّر جديد في الحلقة المفرغة للتهديد بالحرب، وهو ما لا يبشّر بالخير بالنسبة لأوروبا.
وبالنسبة لأوروبا، لم تكن هناك “مشكلة” روسية إلى أن استغل المحافظون الجدد فرصة “فتح” الميدان لإضعاف روسيا، حسب كروك.