تراجعت خلال العامين الأخيرين.. التضخم يرخي بظلاله على معدلات الولادة!
البعث الأسبوعية- ميس بركات
لم تُفلح مساعي المنظمات والجهات المعنية بشؤون الأسرة في نشر التوعية الأسرية خلال سنوات مضت بضرورة تنظيم الإنجاب الذي أخذ عند الكثير من الأسر البسيطة طابع إلزامي لجهة تعويض الخسائر البشرية خلال سنوات الحرب، أما في الأرياف فكان الإنجاب غير المنظم مستمراً من منطلق تأمين يد عاملة تكون سنداً للأسرة ومعيلاً في الأرض الزراعية لاحقاً، إلّا أن سرطان التضخم الذي تفاقم خلال العامين الأخيرين أجبر الغالبية العظمى من الأسر على تنظيم الإنجاب فيها، خاصّة مع ارتفاع سعر مستلزمات الطفل وانقطاع حليب الأطفال تارة وتواجده تهريباً تارة أخرى، عدا عن ارتفاع تكاليف الحمل والولادة والتعليم والخدمات الصحية وما إلى هنالك من تبعات تلحق عملية الإنجاب غير المبني على تفكير وتخطيط مسبق.
تركيبة هشّة
ومن يتتبع البيانات الصادرة عن المعهد العالي للدراسات والبحوث السكانية سيجد أن المؤشر كاد أن يصل في تسعينات القرن الماضي لما يسمى بالانفجار السكاني في سورية، ناهيك عن أن نصف التركيبة السكانية كانت من الأطفال إلّا أن هذه النسبة تغيرت مع بداية التسعينات حيث بدأت تتراجع نسبة الأطفال لحدود 34% وازدادت نسبة السكان بشكل عام ومن ضمنهم الشباب، بيد أن البنية السكانية أصبحت خلال سنوات الحرب هشة يعتريها الخلل بالكم والنوع، الأمر الذي دفع شريحة كبيرة من السكان بالتفكير بتعويض الخسائر البشرية بالإنجاب الكثير دون توعية أو تخطيط أو دراية للعواقب النفسية والجسدية والمادية على الأسرة أولاً وعلى اقتصاد البلد ثانياً، إذ وجد مضر سليمان “إدارة موارد بشرية” أن حالة النقص السكاني التي فرضتها الحرب من هجرة ووفيات ليس بالضرورة أن يُقابلها إنجاب غير منظّم خاصّة مع موجات الغلاء المتلاحقة التي قلّصت حصّة الفرد من الغذاء والتعليم والرعاية الصحية وغيرها من أبسط حقوقه، إلّا أن عقلية البعض لا زالت محصورة بالتفكير بخطورة الموضوع شرعاً واعتبار موضوع تنظيم الإنجاب تقليد للغرب الذي بات عجوزاً بقارته، وما إلى هنالك من معتقدات مغلوطة، الأمر الذي يستدعي تضافر جهود الجهات والمنظمات والهيئات المعنية بالأسرة وتقديم التوعية لهم عبر وسائل الإعلام بضرورة الإنجاب المبني على التخطيط المادي أولاً للحفاظ على تركيبة مجتمع سليمة قوية مبنية قائمة على العلم والصحة لا الإنجاب لمجرد الإنجاب فقط خاصّة وأننا اليوم بأمس الحاجة لعنصر فاعل في المجتمع قادر على العطاء وبناءه من جديد.
تراجع معدّل الولادات
وبناء على حديث مختص في الموارد البشرية توجهنا لجمعية تنظيم الأسرة ليتحدث مصدر فيها عن إستراتيجية الجمعية بهذا الموضوع من خلال تقديم خدماتها في كافة المحافظات لدعم وتمكين المرأة من خلال الجلسات والمحاضرات التوعوية بأهمية دورها في الأسرة والمجتمع وضرورة الأخذ باعتبار الجانب الاقتصادي والاجتماعي والصحي للأسرة خلال التفكير بالإنجاب، إلّا أنّ الجمعية لا تملك الحق في منع الأسر من التفكير بالإنجاب بل يقتصر دورها على التوعية وتقديم وسائل تنظيم الأسرة ومتابعة الحمل وما بعد الولادة والعنف القائم على النوع الاجتماعي، ولم يُخف المصدر تراجع عدد الولادات خلال العامين الأخيرين بشكل كبير نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة، ففي الكثير من الأحيان لا تنجح حملات التوعية بتنظيم الإنجاب لاسيّما عند الأسر المتمسكة بالعادات والتقاليد القديمة بكثرة الإنجاب و”رزقة الطفل تأتي معه”، إلّا أن اصطدامهم مع الواقع المُؤسف جعل نظرتهم تتغير مع ارتفاع تكاليف الحمل والأدوية المرافقة له وتكاليف الولادة، علاوة عن مصاريف الطفل في مراحل عمره الأولى وما يتبعها من مصاريف لاحقة لم يعد أكثر من 80% من الأسر قادرين على تحمّلها.
الحكومة بعيدة
ومن وجهة نظر الاقتصاد لم يقتصر الخلل السكاني على الزيادة أو النقصان فحسب رأي الاقتصادي إسماعيل مهنا، فإن البنية السكانية وطبقات المجتمع المحصورة بفئتين فقط “أغنياء وفقراء” تركت أثرها السلبي الكبير على المجتمع ككل، لافتاً إلى أن معدل النمو الاقتصادي لا يتناسب طرداً مع معدلات النمو السكاني، فعلى الرغم من تراجع معدلات الولادة نتيجة هجرة الكثيرين وعزوف الكثير ممن تبقى عن فكرة الزواج وتأني المتزوجين بموضوع الإنجاب والحرص على تنظيمه بولد أو اثنين، إلّا أنه ورغم كل ما سبق لا زال معدل النمو الاقتصادي يرتفع بشكل كبير لا يمكن للقطار السكاني اللحاق به، ولم يُخف مهنا أن مسألة تنظيم الأسرة هي مسألة بعيدة كل البعد عن قرارات الحكومة وهي مسألة أسرية مجتمعية إلّا أن قرارات الحكومة المُتجهة يوماً بعد يوم لزيادة معدل التضخم تؤثر بشكل مباشر على تنظيم النسل، بالتالي سنصل آجلاً أم عاجلاً إلى معدل نمو سكاني متوسط إن لم نقل منخفض وحينها يجب على الحكومة استثمار هذه الطاقات بالشكل الأمثل في ميادين العمل وهذا يستدعي التخطيط من اليوم لضم هذه الشريحة لسوق العمل واستغلال وجودها لا تركها عُرضة لمغريات السفر تجنباً لوصولنا إلى ما وصلت إليه الدول الغربية واستيرادنا اليد العاملة في المستقبل.
بين التنظيم والتحديد
ولأن الطابع الديني يغلب على تفكير الشريحة العُظمى من الأسر التي تبتعد عن تنظيم الأسرة من منطلق الدين الذي نهى –حسب رأيهم- عن هذا الأمر توجهنا في سؤالنا لمديرية التوجيه والإرشاد في وزارة الأوقاف التي طالبتنا بالحصول على موافقات من الوزارة، ولأن هذه الموافقات طال انتظارها كان لأستاذ الشريعة عرفان الصالح رأيه بأن الإسلام كفل حق الحياة وقد أمر التشريع الإسلامي بحفظ هذا الحق ومعاقبة من يقوم على انتهاكه، ومن هذا المنطلق فلم يجيز الإسلام قطع الإنجاب أو تحديده إلّا في حالات معيّنة حددها، ولفت الصالح إلى أن الإجهاض محرم شرعاً وهو أيضا جريمة يعاقب عليها القانون السوري باعتبارها “جناية” وقد يعاقب عليها باعتبارها “جنحة”، فقانون العقوبات السوري يقف موقفاً حاسماً من موضوع الإجهاض حتى أنه لا يفرق بين الشروع بالإجهاض وبين إنجازه ولا يفرق بين الإجهاض في بدء الحمل أو نهايته، وفرّق أستاذ الشريعة في حديثه بين تنظيم النسل وتحديده ، فتحديد النسل محرّم شرعاً في حين أن تنظيمه جائز شرعاً عن طريق استعمال وسائل منع الحمل في الحياة الزوجية حصراً، لذا من واجب الدولة التوعية وتوفير هذه الوسائل وبيعها بشروط معيّنة “للمتزوجين” كي لا تكون متوفرة بسهولة للشباب وبالتالي تروّج للدعارة بطريقة غير مباشرة وحينها يمكن اعتبار وجودها أمر محرّم شرعاً.