الانتقائية الدولية والمعايير المزدوجة في حرب غزة
عناية ناصر
مع سقوط الاتحاد السوفييتي وظهور الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة، نشر الفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما كتابه الشهير “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، الذي سلّط فيه الضوء على تفوّق القيم الليبرالية الغربية المتمثلة في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان على القيم السوفييتية. لكن فوكوياما نفسه بدأ في التراجع عن آرائه في أعقاب حرب العراق والصراعات اللاحقة التي وضعت هذه الأخلاقيات الغربية تحت التدقيق الجدي.
لقد أعادت الحرب الروسية الأوكرانية والحرب الإسرائيلية على غزة في 7 تشرين الأول إثارة الجدل حول القيم الغربية ومبادئ حقوق الإنسان والمعايير المزدوجة. وقد أدّى الاستخدام الواسع النطاق لوسائل التواصل الاجتماعي إلى توسيع هذا الجدل الدولي، متحدّياً الأخلاقيات التي تتبناها الإدارة الأمريكية، وأثار تساؤلاتٍ حول وجهة النظر الغربية للحرب الروسية في أوكرانيا مقارنة بالحرب الإسرائيلية في غزة.
إن الحرب الإسرائيلية على غزة، والانحياز الأمريكي الواضح نحو “إسرائيل”، والبحث عن مبررات لقتل الآلاف من الأطفال والنساء، يفضح النفاق الصارخ داخل النظام الأخلاقي الدولي. يتعمّق هذا التحليل في هذا التناقض الكبير، ويتحدّى سلامة القانون الدولي والمعايير الأخلاقية بينما يسلّط الضوء على ازدواجية المعايير الغربية والأخلاق الانتقائية.
ازدواجية المعايير الغربية
تقول أولكسندرا ماتفيتشوك، المحامية الأوكرانية في مجال حقوق الإنسان والحائزة جائزة نوبل للسلام: “بدلاً من الوقوف في صف حرب غزة، ينبغي علينا جميعاً أن نشجّع الإنسانية”.
إن الانقسام في التوجّه الغربي، وخاصة من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في التعامل مع الصراع الروسي الأوكراني والعدوان الإسرائيلي على غزة أمر صاعق، حيث خصّصت الولايات المتحدة ما يقرب من 46 مليار دولار من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وما مجموعه 113 مليار دولار في أشكال مختلفة من المساعدة في الحرب ضد روسيا.
وفي تناقض صارخ، تدعم هذه القوى “إسرائيل” باستمرار، ليس سياسياً فقط، بل أيضاً من خلال مساعدات مالية وعسكرية كبيرة. وفي هذا الخصوص غرّدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في 6 كانون الأول قائلة: “لقد وصلت بالفعل الطائرة رقم 200 من المساعدات العسكرية إلى “إسرائيل”، مع حوالي 10,000 طن من المساعدات العسكرية التي تم تلقّيها منذ 7 تشرين الأول، لتمويل العمليات العسكرية فعلياً في غزة. علاوة على ذلك، يظهر خطاب الزعماء الغربيين، مثل الرئيس جو بايدن ونائبة الرئيس كامالا هاريس، بوضوح هذه المعايير المزدوجة، ففي حين أنهم يدينون بشدّة تصرّفات روسيا في أوكرانيا، فإن دعمهم المستمر والواضح لتصرفات “إسرائيل” في غزة، وخاصة التبنّي المطلق للرواية الإسرائيلية، قد أحرج الإدارة الأمريكية مراراً وتكراراً منذ 7 تشرين الأول، وذلك من خلال حالات: “أطفال مقطوعي الرأس، ومعاملة الرهائن والشكوك حول عدد الشهداء في غزة”. ويكشف هذا الدعم المستمر عن حالة واضحة من العدالة الانتقائية في الشؤون الدولية.
التكلفة البشرية في غزة
إن الأزمة الإنسانية في غزة ليست مجرّد أرقام وإحصائيات، إنها قصة معاناة إنسانية غير مسبوقة، ففي أقل من 60 يوماً، قتلت سلطات الكيان الإسرائيلي ما يقرب من 16,000 مدني فلسطيني، من بينهم أكثر من 6,600 طفل و4,300 امرأة، وأصابت أكثر من 42,000 شخص. ولا يزال أكثر من 8,000 شخص، من بينهم 4,700 طفل، في عداد المفقودين، ومن المحتمل أن يكونوا مدفونين تحت الأنقاض وسط غياب معدات الدفاع المدني والحصار الذي يفرضه الكيان “الإسرائيلي”.
إن الدمار الهائل الذي خلّفه القصف الإسرائيلي على غزة، دمّر أكثر من 300 ألف منزل، وجميع المستشفيات في شمال قطاع غزة، وعشرات المساجد والمدارس والجامعات والبنية التحتية وشبكات المياه والكهرباء وشبكات الصرف الصحي وثالث أقدم كنيسة في العالم. إن هذا العمل الهمجي هو بمنزلة تذكير مؤلم بالتكلفة الإنسانية للحرب، وتذكير أكثر إيلاماً بالمعايير المزدوجة التي ينظر بها العالم الغربي إلى المعاناة الإنسانية غير المسبوقة في غزة.
الإرهاب الإسرائيلي وخطاب القيادة
يجسّد الخطاب الذي يروّج له قادة الكيان الإسرائيلي العدوان المتفشي والتجريد الصارخ من الإنسانية. استحضار رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لوصايا دينية مزعومة تأمر بقتل الرجال والنساء والأطفال وحتى الحيوانات لتبرير الحرب، ووصف وزير سلطات الكيان للفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية”، ودعوة وزير التراث لقصف غزة بالأسلحة النووية ليست مجرّد كلمات، إنها مظهر واضح للعقلية التي تديم الإرهاب الذي ترعاه سلطات الاحتلال وتبرّره. ويشكّل هذا الخطاب العدواني، إلى جانب الاستهداف العشوائي للمدنيين والبنية التحتية، مثالاً كلاسيكياً على الإرهاب الذي تقوده “إسرائيل”، والذي تدعمه وتحميه الولايات المتحدة والغرب من المساءلة القانونية.
التواطؤ الغربي في الإبادة الجماعية في غزة
إن تورّط الدول الغربية، وخاصة فيما يتعلق بالمساعدات المالية والعسكرية لـ”إسرائيل”، يجعلها مشاركة نشطة في الإبادة الجماعية الجارية في غزة. وجاء في بيان وزارة الخارجية الأمريكية في 4 كانون الأول: “لم نرَ أي دليل على أن “إسرائيل” تقتل المدنيين عمداً في حربها على قطاع غزة، وليس لدينا معلومات تشير إلى أن السلطات “الإسرائيلية” تستهدف الصحفيين في هذا الصراع، ونحن نتوقّع أن سقوط ضحايا من المدنيين هو نتيجة للعمليات العسكرية في غزة، وهو ما يحدث للأسف في جميع الحروب”، وهو ما يتناقض بشكل صارخ مع الحقائق على الأرض. ففي الستين يوماً الأولى من الحرب “الإسرائيلية” الهمجية على غزة، قتلت قوات الكيان الإسرائيلي 72 صحفياً، وهو ما يتجاوز إجمالي عدد الصحفيين الذين قتلوا في جميع أنحاء العالم العام الماضي، والذي بلغ 67. إن القتل المتعمّد للصحفيين والإبادة المنهجية للحياة المدنية والبنية التحتية تحت ستار الدفاع عن النفس وبدعم غربي تكشف عن تواطؤ مثير للقلق في هذه الأعمال المروّعة.
نهاية القانون الدولي والأخلاق؟
إن ما نشهده في غزة ليس مجرّد صراع، إنها الإبادة الجماعية تتجلى في أوضح صورها. إن الاستهداف المتعمّد للمدنيين، والتدمير الشامل للأحياء، والتعطيل الكارثي للخدمات الأساسية وتقييد عمل المنظمات الدولية النشطة مثل الأمم المتحدة والصليب الأحمر، تشكّل جهداً متضافراً للقضاء على السكان. إنها إبادة جماعية، ليس فقط في تعريفها، بل في أكثر أشكال تنفيذها وحشية وإجرامية أيضاً.
وبينما تتكشف مأساة غزة جنباً إلى جنب مع استجابات الغرب المتباينة لها ولأوكرانيا، يبرز سؤال ملح: هل وصلنا إلى الانهيار التام للنظام الأخلاقي الدولي والقانون الإنساني الدولي؟ وهل وصل العالم بالفعل إلى حافة الهاوية بعد الحرب الروسية الأوكرانية والحرب الإسرائيلية على غزة، حتى أصبحت إعادة بناء النظام الدولي مسألة وقت؟ وخاصة أن الأدلة تشير إلى تآكل مقلق لمبادئ العدالة الدولية وحقوق الإنسان والمساواة بموجب القانون الدولي، التي تتعرّض للخطر بسبب النفاق والأخلاق الانتقائية لدول العالم القوية. إن الوضع في غزة ليس مجرد نداء للمساعدة، إنها دعوة للاستيقاظ من أجل إعادة تقييم عميق للنظام الدولي والبوصلة الأخلاقية التي توجّه السياسة العالمية.