مجلة البعث الأسبوعية

فكـــــر القضايـــا.. لا قضايـــا الفكــــــر!..

د. مهدي دخل الله

التوجه اليوم في ما يخص الحزب هو “وضع رؤية جديدة، تنظيمية وفكرية”، كما وجه الرفيق الأمين العام في حديثه الشامل أثناء اجتماع اللجنة المركزية السبت الماضي. ذلك لأن الحزب، وفق تعبير سيادته “من أقدم الأحزاب التي لعبت أهم الأدوار منذ الاستقلال حتى اليوم”، ولأن مناقشة أمور التحديث في فكر الحزب وتنظيمه” تهدف لمناقشة الوضع العام من الألف إلى الياء”.

المنهج الأساسي الذي طرحه الرفيق الأمين العام يحمل عنوان « فكر القضايا » . هنا ينبغي طرح مسألة الإيديولوجيا والنظريات والمبادئ . عادة تكون الأحزاب خاضعة تماماً لقضايا الفكر ، أي للإيديولوجيا كمصفوفة فكرية مسبقة وثابتة . وقضايا الفكر تبعد الأحزاب عن قضايا الواقع ، لأنها تغوص في محاكمات لقضايا نظرية ليس لها أي علاقة بالواقع . وغالباً ، تلتزم هذه المحاكمات بالشابلونات المنطقية الصورية التجريدية . النهاية تكون انفصام الحزب عن الواقع ، وسقوطه سقوطاً مريعاً . أثبتت تجربة القرن العشرين هذا السقوط العظيم لأحزاب كبرى وإيديولوجيات كبرى في دول عظمى ..

هذا هو وضع الأحزاب التي تنشغل بقضايا الفكر وتجربتها المريرة تاريخياً . في المقابل ، هناك أحزاب ونظريات تبنى على فصل الواقع عن الفكر ، والنظر إلى هذا الواقع كشيء قائم في ذاته ، بعيداً عن مساره التاريخي وتراكماته وتكوينه المستمر . هذه هي النظريات البراغماتية التي تقرأ الواقع « في ذاته » وليس « من أجل ذاته » ، فتصبح نظريات نفعية مبتذلة تضر بالتكوين الحقيقي للواقع ..

الحل هو في فكر القضايا ، وله عنصران : الأول أن الفكر ينبغي أن يستند إلى مبادئ عامة واضحة غير مجردة ، مبادئ تحدد اسلوب فهم الواقع لا الاستعلاء عليه . الثاني الاعتراف التام بالواقع في وجوده الحالي لكن ضمن كينونته التطورية ..

ركز الرفيق الأمين العام على المبادئ ، كما ركز على ضرورة فهم الجوهر . ومصطلح الجوهر هو مفتاح فهم الواقع ، لأن الجوهر هو الجامع المركزي لسمات الواقع الرئيسية . فالظاهر يخدع ويلهي المراقب بالتفاصيل ، أما الجوهر فيدل على أصل الظاهرة وعقدتها المركزية . وقد ضرب سيادته مثلاً واضحاً على القضية الفلسطينية ، حيث أن الابتعاد عن الجوهر القصد منه إخفاء الحقيقة ، وإظهار الأمر وكأنه يتعلق بصراع بين فلسطينيين ( إرهابيين ) وجيش اسرائيلي ( مسالم ) . أما الجوهر فهو قضية الاحتلال ، فالصراع هو بين من اُحتلت أرضه ومن احتل هذه الأرض . فهو صراع عادل بالضرورة .

إن تركيز فكر القضايا على الجوهر يقود إلى وضع مقولات لا تُظهر حقيقة الواقع فحسب ، وإنما تشير إلى سُبل تطويره لصالح الحياة . فالمقولة ينبغي أن تُعبر عن المعنى الحقيقي للجوهر ( ابن رشد في كتاب المقولات ) . إنه فهم الضرورة ، وما الحرية سوى فهم الضرورة ..

ولعل ما يميز مسيرة البعث هو القدرة على النقد الذاتي ، بمعنى القدرة على الانعتاق من النص الجامد . وأهم دليل على ذلك هو الانتقال الفعلي من نص المنطلقات النظرية ( المؤتمر القومي السادس 1963 ) إلى نظرية السوق الاجتماعي ( المؤتمر القطري العاشر 2005 ) . إنه انتقال نوعي لأن المنطلقات كانت مقيدة بمقولات الفهم الماركسي للواقع ، بينما السوق الاجتماعي أقرب إلى مقولات الأممية الثانية أواخر القرن التاسع عشر وما نتج عنها من فكر اشتراكي وطني جمعي وديمقراطي ..

mahdidakhlala@gmail.com