بعد طوفان الأقصى.. الكيان ينزف والهجرة العكسية تتصاعد
د.معن منيف سليمان
أسهمت عملية “طوفان الأقصى” في ارتفاع أعداد المهاجرين الإسرائيليين بشكل عكسي من فلسطين، حيث غادر الآلاف منذ شهر تشرين الأول الماضي بعد إخلاء مغتصبات غلاف غزّة، وفي ظلّ استمرار استهداف “تل أبيب” والمغتصبات الأخرى في الأراضي المحتلة بصورايخ المقاومة الفلسطينية، سرت دعوات على وسائل التواصل الاجتماعي داخل الكيان الصهيوني تحت عنوان “لنغادر البلاد معاً”، واكتظّ مطار بن غوريون (اللدّ سابقاً) بالمغادرين الهاربين من حيث أتى أجدادهم، إلى أوروبا وأمريكا وروسيا وغيرها من الدول، في حين توقف المطار نفسه عن استقبال أي وافد جديد من الخارج. هذه الهجرة تستنزف الكيان وتنهي “دولة الأمان” التي بدأت في الانهيار فعلاً، وسوف تتصاعد مع تصاعد ضربات المقاومة وتؤدّي إلى زوال الكيان في نهاية المطاف.
على مدار سبعة عقود، ظلّت حكومات الاحتلال الإسرائيلي المتعاقبة تحشد رموزها وقادتها ووسائلها الإعلامية لاستقطاب مزيد من الجماعات اليهودية إلى فلسطين، وكان الكيان الصهيوني قد أقرّ في تموز 1950 تشريعاً سمّاه “قانون العودة” الذي يُعطي اليهود حق الهجرة إلى فلسطين والاستقرار فيها ونيل الجنسية الإسرائيلية، بهدف جذب يهود العالم إلى فلسطين التاريخية.
ولكن الصراع على الحكم في الكيان والاحتجاجات المتواصلة ضدّ خطة الحكومة لإصلاح الجهاز القضائي، أدّيا إلى قلق الوكالة حيال رواج ظاهرة الهجرة العكسية لليهود خاصة العلمانيين منهم.
ويشهد الكيان في السنوات الأخيرة توجّهاً متزايداً للإسرائيليين للانتقال إلى تجربة الحياة في الخارج، وهو التوجّه الذي تحوّل مع تولي حكومة بنيامين نتنياهو ـ التي تعتمد على الأحزاب الحريدية والتيار الديني واليمين المتطرف ـ إلى ما بات يعرف بـ”الهجرة اليهودية العكسية”.
ومنذ بدء عملية “طوفان الأقصى” في السابع من شهر تشرين الأول الماضي، تتزايد الهجرة العكسية للصهاينة من فلسطين. ووصل عدد المهاجرين إلى نصف مليون إسرائيلي فضلاً عن عشرات آلاف العمال الأجانب والدبلوماسيين الذين غادروا الكيان بسبب سوء الأوضاع. وتضمّ المجموعات المغادرة عائلاتٍ إسرائيلية ورجالاً وسيدات أعمال من أصحاب الجنسية المزدوجة، وممن يملكون جوازات سفر أجنبية.
ومع استمرار الحرب على قطاع غزّة، وتصاعد التوترات على الجبهة الشمالية مع لبنان، والمواجهات المتواصلة في الضفة الغربية المحتلّة، تتزايد أعداد المهاجرين بشكل مضطرد وخاصة بعد فقدان الإسرائيليين شعور الأمان بسبب تزايد عمليات المقاومة الفلسطينية بعد عملية طوفان الأقصى، يلي ذلك أسباب سياسية؛ أبرزها: تخوّف الإسرائيليين من اعتماد حكومة “نتنياهو” على أحزاب التيار الديني واليمين المتطرّف.
ومن ضمن الأسباب المؤدّية إلى الهجرة العكسية توقّف عمل المحال التجارية والاستهلاكية عن العمل خوفاً من الرشقات الصاروخية المدمّرة التي باتت تنهال على مغتصبات الكيان الصهيوني من المقاومة وطال بعضها “تل أبيب”، حيث توالت التصريحات حول إخلاء كل المغتصبات الواقعة حول قطاع غزّة من سكّانها، كما أُخليت أكثر من عشرين مغتصبة في شمالي فلسطين المحتلة، قرب الحدود اللبنانية.
والحملة التي انطلقت قبل نحو عام التي أطلقت على نفسها “لنغادر البلاد معاً”، باتت تنشط بشكل أوسع بعد عملية “طوفان الأقصى”، وتعاظم فقدان الشعور بالأمن والأمان. ووسعت المجموعة نشاطها مع تصاعد التوتر الأمني في البلاد، مع عدم وجود أفق لانتهاء الحرب، وباتت تروّج عبر منصات التواصل الاجتماعي إلى مغادرة الكيان، وعرضت مساعدتها على كل من يحمل جواز سفر إسرائيلياً، وليس على من يمتلك جنسية مزدوجة وبحوزته جواز سفر أجنبي فقط.
وتضمّ مجموعة الحملة في تطبيق “واتساب” 676 مشاركاً، أغلبيتهم العظمى من الإسرائيليين، وبعضهم من اليهود الموجودين خارج البلاد، ويمكثون في دول مختلفة حول العالم، وتهدف الحملة إلى هجرة 10 آلاف شخص خارج فلسطين في الوقت الحالي.
وفي المقابل، الهجرة إلى فلسطين انكمشت هذه السنة، مع استقرار الوضع في أثيوبيا ونسبياً قي أوكرانيا، ومع تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي والأمني في الكيان بسبب سياسة الحكومة.
وانخفض عدد المهاجرين من نحو 20 ألفاً في الفصل الأول من عام 2023 إلى نحو 11 ألفاً في الفصل الثالث. وفي الأسابيع الأولى من الحرب كادت الهجرة تتوقّف، وبلغ عدد المهاجرين إلى فلسطين منذ السابع من تشرين الأول الماضي أقلّ من 1 بالمئة من عدد الإسرائيليين الذين غادروا فلسطين.
وفي الوقت الذي تتزايد فيه الهجرة العكسية لخارج الكيان تتراجع الهجرة إليه، في حين يواصل الفلسطينيون الاستخدام الفعّال لسلاحهم الرئيس وهو النمو الديمغرافي بزيادة تعداد السكان عبر كثرة الإنجاب وهو سلاح قوي لا يمكن إيقافه.
إن تزايد ظاهرة الهجرة العكسيّة لخارج الكيان تشكّل سابقة خطيرة بالنسبة إلى نظام الاحتلال القائم على جذب وترغيب اليهود في جميع أنحاء العالم للهجرة إليه، ووعدهم بحياة آمنة ومستقرّة، إذ تشير ظاهرة الهجرة العكسية المتزايدة إلى انكسار أسباب الاستقرار المبنيّة على الأمن، فبالنسبة للكثيرين لم يعُد الكيان مكاناً آمناً ولا يتوفّر فيه عنصر الاستقرار والأمن ومسوّغات البقاء والمستقبل الذي ينشدونه مع التآكل المتسارع لنظريته الأمنية.
لم يتعوّد الإسرائيليون على “النزوح” فقد كان هذا مصطلحاً لصيقاً بالفلسطينيين والعرب في الأماكن التي تطولها الاعتداءات الإسرائيلية، وبعد “طوفان الأقصى” بات الإسرائيليون ينزحون أيضاً.
وكانت مشاهد الازدحام غير المسبوق في مطار تل أبيب والمطارات الأخرى، أكبر من أن تفسّر بسياقات السفر العادية، فمعظم من يخرجون باتوا لا يعودون، ويضرب كل ذلك عمق العقيدة الصهيونية التي تقوم على عنصر الإحلال والاستقرار وتشجيع الهجرة المكثفة إلى فلسطين.
باتت الهجرة العكسية كابوساً يلاحق قادة الصهاينة في “تل أبيب” مع مرور الوقت، على الرغم من جهود الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لاستقدام اليهود من دول العالم، لقد أصبحوا يفرّون من أرض ليست أرضهم أصلاً. هذه الهجرة العكسية تؤكّد أن هذا الكيان المسمّى “إسرائيل” لا يمكن أن يعيش أو يستمر في الحياة لأنه كيان لقيط، زُرع في خاصرة الأمة العربية والإسلامية، ولا بدّ يوماً أن يزول وأن يعود الحق لأصحابه.