دراساتصحيفة البعث

الصراع في البحر الأحمر… نقطة الفصل

د.معن منيف سليمان

تصرّ صنعاء على أداء واجبها الأخلاقي والديني والإنساني في دعم المظلومين في قطاع غّزة، ومن هذا المنطلق أعلنت استهداف السفن الصهيونية أو المتجهة إلى موانئ الكيان، فأرست بذلك معادلة جديدة من خلال فرض حصار تجاري بحري مباشر على الكيان من جهة البحر الأحمر، وربطت ذلك بتوقف العدوان الصهيوني على قطاع غزّة، والسماح بدخول الغذاء والدواء إليه. هذا الإصرار اليمني دفع واشنطن إلى تشكيل قوة دولية بحرية لضمانة أمن السفن الإسرائيلية وحماية تجارتها البحرية، ومع ارتفاع وتيرة التصعيد والتهديدات المتبادلة بين أطراف الصراع تصاعدت المخاوف من اتساع دائرة الحرب لتصل إلى جنوب البحر الأحمر.

مع توسع القوات الإسرائيلية في عملياتها البرية في قطاع غزّة، ترتكب طائراتها الحربية مجازر بشعة ضدّ المدنيين الفلسطينيين، مقابل ذلك أعلنت صنعاء في تشرين الثاني الماضي أنها سوف تستهدف أية سفينة إسرائيلية أو تنقل بضائع من “إسرائيل” وإليها لدى مرورها بمضيق باب المندب الذي تسيطر عليه تضامناً مع غزّة حتى يتم إدخال المواد الغذائية والأدوية والوقود إلى القطاع. وكانت القوات البحرية المصرية قد أغلقت باب المندب أمام الملاحة الإسرائيلية لمدة ثلاثة أسابيع خلال حرب تشرين 1973، ما يضع عن صنعاء في قرارها إغلاق باب المندب بوجه السفن الإسرائيلية صفة السابقة.

ونتيجة لتواصل استهداف القوات المسلحة اليمنية للسفن الإسرائيلية في البحر الأحمر وخليج عدن أجبرت السفن الإسرائيلية على أن تسلك مسارات الشحن القديمة الأكثر تكلفة حول أفريقيا عبر رأس الرجاء الصالح، ما يرفع من أجور الشحن وأسعار السلع ودفع المزيد من التأمينات ويزيد من الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد الإسرائيلي الذي يعاني من الركود نتيجة تداعيات الحرب على غزّة.

وإزاء تصاعد هجمات الجيش اليمني على السفن الإسرائيلية، أعلنت الولايات المتحدة أنها بصدد تشكيل تحالف دولي بحري يحمل اسم “عملية الازدهار والحماية والعمل” بنواة أطلسية، لمرافقة السفن التجارية وتأمين الملاحة البحرية في البحر الأحمر وخليج عدن.

لا شك أن التحالف المشكّل أمريكياً هو لدعم “إسرائيل” وحماية أمن تجارتها البحرية، وهو بالتالي عسكرة للبحر الأحمر بدون أية مسوّغات منطقية تستوجب هذا التحالف إلا لتوريط تلك الدول والتضحية بها لغرض أمريكي. ذلك أن اليمن لن يتوقّف عن مواصلة عملياته المشروعة دعماً لغزّة مثلما سمحت أمريكا لنفسها أن تساند ربيبتها “إسرائيل” بتشكيل تحالف وبدون تحالف، كذلك فإن الشعب العربي له كامل المشروعية لمساندة الفلسطينيين العرب على الأقل من باب تطبيق معاهدة الدفاع العربي المشترك، وقد أخذ اليمن على عاتقه أن يقف إلى جانب الحق الفلسطيني ودفع الظلم والعدوان عن غزّة كواجب أخلاقي وديني وإنساني.

إن الولايات المتحدة ترى في الجيش اليمني واللجان الشعبية قوة لا يستهان بها وبالتالي تعدّهم جزء مهم من محور المقاومة المناهض لمشاريعها الاستعمارية، الذي بدأ يستخدم فعلاً إستراتيجية رادعة تقلق أمريكا وتشكّل خطراً على قوّاتها ومشاريعها في المنطقة. ولهذا تسعى أمريكا إلى احتواء القوّة العسكرية والسياسية اليمنية المتصاعدة، وتقليصها بحيث لا تقع هذه المنطقة الإستراتيجية التي تطلّ على ممرّ حيويّ تحت سيطرة محور المقاومة في المستقبل.

وفضلاً عن ذلك تسعى أمريكا لاستغلال جميع الجهات الفاعلة في البحر الأحمر لمواجهة الصواريخ البالستية والطائرات المسيّرة التي تنطلق من اليمن لتضرب أهدافاً في “إسرائيل”. وعليه فإن واشنطن تضع آلية جديدة متعدّدة الجنسيات للتعاون الدفاعي الموجه نحو الجنوب لغاية مواجهة صواريخ اليمن وطائراته المسيّرة، بقيادة أمريكية مع الاستفادة من مواقع بعض الدول لاعتراض هذه الهجمات الجوية.

وفي هذا الوقت تصاعدت حدّة لهجة التهديدات المتبادلة بين أطراف الصراع، حيث هدّد قادة الكيان بالتحرّك لوضع حدّ لهجمات الجيش اليمني إذا أخفق حلفاؤهم في القيام بذلك. بالمقابل ردّت صنعاء بأن أيّ تحرّك عدائي ضدّ اليمن ستكون عواقبه وخيمة وتكلفته كبيرة، مع التأكيد على أن العمليات ضدّ “إسرائيل” سوف تستمر مهما يكن ومهما كانت التهديدات والتلويحات الأمريكية التي تؤكّد بدورها على عدم التسامح مع المزيد من الهجمات اليمنية.

إن ردّ أمريكا بشكل مباشر على الجيش اليمني سوف يفتح جبهات جديدة في المنطقة بالإضافة إلى جبهة غزّة، وهذا أمر تتجنبه الإدارة الأمريكية بسبب كلفة أعباء هذه المهمّة الصعبة وتبعاتها السياسية والاقتصادية في السياسة الداخلية للدول إذا تفاقمت الأوضاع في اليمن. إذ أن مسؤولين أمريكيين يقدّرون حالياً أن هجوماً ضدّ اليمن سيكون عملاً خاطئاً، ويشكّل خطراً كبيراً بتصعيد الحرب الإسرائيلية على غزّة لتصبح مواجهة إقليمية أوسع، وأن إدارة الرئيس بايدن تسعى لمنع تصعيد مثل هذا. حتى أن الإدارة الأمريكية طلبت من “إسرائيل” عدم مهاجمة اليمن، خوفاً من اتساع الحرب نظراً لأهمية اليمن بالنسبة إلى محور المقاومة.

وبناءً على ذلك ربما تعمل واشنطن بالتعاون مع التحالف على الاكتفاء بحماية السفن العابرة لمضيف باب المندب، ذلك أن الإدارة الأمريكية تعلم أن توجيه ضربات جوية مباشرة نحو اليمن تحت اسم “الضربة الوقائية”، سوف ينجم عنه ردود لا تحمد عقباها. ولهذا يرى محلّلون أن هذا الوضع هو السيناريو الأسوأ، لأن التدخل المباشر في اليمن سيعني بداية طريق مسدود جديد للدول المشاركة في التحالف، على غرار ما جرى في أفغانستان.

إن التدخلات العسكرية قصيرة المدى قد تبدو وكأنها توفّر حلولاً فورية، إلا أن مثل هذه التدخلات عادة ما تخفق في حلّ المشكلات الأساسية. أما المشاركة الدبلوماسية لجميع الأطراف المعنية فهي ضرورية، لضمان الاستقرار على المدى الطويل.