ثقافةصحيفة البعث

“المعلم” فاتحة مجاملات آخرتها خلافات

نجوى صليبه

كتب الشّاعر محمد عيسى: “أستاذنا الكبير، ومعلّمنا الجدير بالاحترام والتقدير الأستاذ حسن إبراهيم عيسى، مبارك أداؤك للواجب، وتسليم رسالة بناء الأجيال لمن علّمتهم وصنعتهم بيديك وفكرك وعقلك وبركاتك، اليوم، ونحن نوقّع لك آخر أوراق التّقاعد كادت تغلبنا العبرة، أدّيت رسالتك بأمانة ونقاء، بوركت يا باني الإنسان”، ثمّ نظم:

إنّ المعلّم شعلةٌ وضاءةٌ/ بين الأنام ومنهل مورود/ ورسالة التّعليم خير رسالة/ من حقّها في العالم التّخليدُ/ يا باني الإنسان أنت معلم/ حقاً.. ولا من للقصور يشيدُ/ وإذا البناء تدعمت أركانه/ لم تقتلعه عواصف ورعودُ/ متقاعدٌ.. تهن الحياة لعزمهِ/ إن الحياة عزيمة وصمودُ/ متقاعد ولطالما نام الورى/ وسراج بيتك ساهرٌ ووحيدُ/ قد تقرع السّتون بابك إنّما/ عزم الشّباب بقلبكم موجود/ قل ما تشاء فإنّ فضلك سابق/ كبر الصّغار وأثمر المجهودُ/ كم من طبيب أو عظيم عالم/ من تحت كفّك نوره الموقودُ/ خذها تحيةً من يدوم بشكركم/ ما دام نور الشّمس وهو جديدُ..

ويشير عيسى إلى أنّ الأبيات الأربعة الأولى هي من قصيدة لوالده الرّاحل كتبها أيضاً للمعلمين في عيدهم، ولا نستحضر هذا المثال للحديث عن عيد المعلم أوّلاً لأنّه ليس وقته، وثانياً لأنّنا سنتحدّث عن “المعلم” كمصطلح يطلقه بعض الأدباء الشّباب تحبباً بأدباء أو وفاءً لأدباء كان لهم تأثيرهم على مسيرتهم الأدبية، لكن بدأت بهذا المثال لأنّي لا أجد أجمل وأصدق من وفاء تلميذ أو طالب لمعلّمه المدرسة، ولأنّ هذه الكلمة أصبحت مستباحة ككثير من الأمور في مجتمعنا، إذ يصرّ كثير من الأدباء الشّباب أو حتّآ الهواة، في بداياتهم، على أن يختاروا أديباً يكبرهم عمراً وربّما تجربة، ليكون بمنزلة مرجع لهم أو مصححاً لأخطائهم، ويظهر بعضهم ودّاً مبالغاً فيه، لدرجة أنّه يتبنّى أفكاره سواء أكانت صحيحةً أم خاطئةً، ويحارب من أجلها، وإن بحثنا في مصداقية هذا الودّ سنجد أنّ بعضهم مقتنعاً بالفعل بما يقوله “المعلم”، أمّا بعضهم فللأسف يفعل ذلك نفاقاً ومجاملةً في سبيل تحقيق أهداف كان من الممكن تحقيقها لو انتظر قليلاً واجتهد كثيراً، ووفّر على نفسه عناء الموافقة والملازمة، وهي أهداف في ظاهرها لا تتعدّى سرعة الوصول والتّعرّف على الوسط الثّقافي وكيل المدائح هنا وهناك والـ”تزكية” في المحافل، وأمّا باطنها فلن نخوض فيه لكي لا نقع بمطب سوء النّوايا.

وبسؤال الشّاعر فارس دعدوش عن هذه الظّاهرة، يجيبنا بالقول: “لا يوجد معلّم في الشّعر، هناك تجارب شعرية يستفاد منها يعني هي مسألة تأثّر وتأثير، أي من الممكن أن يكون الشّاعر قدوةً لغيره بالمحبّة والتّقدير، وليس بـ”معلمية”، أمّا بالنّسبة إليّ، فلدينا في الوسط شخصيتان اثنتان هما الشّاعران غدير إسماعيل وجمال المصري، تأثّرت بثقافتهما وشعرهما بحكم رفقتنا الطويلة، لكن ما يجري من إطلاق لقب “معلّم” على شاعر ما أو شاعرة، ليس إلّا مجاملةً أو مصلحةً أو ضعفاً، وفي حالات نادرة عندما تكون العلاقة عميقة وصادقة وفرق كبير في العمر يكون هناك معلم”.

الملاحظ، ولا سيّما في السّنوات الأخيرة، أنّ معظم هذه العلاقات لم يكتب لها الاستمرار، يعلّق دعدوش: “تقريباً في الوسط الثّقافي معظم هذه الحالات انتهت إلى خلاف، ومن الطّبيعي أن يحصل هذا الأمر، لأنّ المعلم يحبّ أن يبقى مسيطراً، والمتعلّم يحبّ أن يصير معلّماً”.

وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ بعض هذه الخلافات بين المعلّم والمتعلّم لم تكن حبيسة المكان، بل وجدت طريقها إلى كثيرين في الوسط الثّقافي والإعلامي، وكما يقال “نشروا غسيل بعض”، أمّا البعض الآخر فلأسباب عدّة لم يتجرّأ ويتحدّث في الأمر، ومنها احتفاظه باحترامه لذاته وللآخر على الرّغم من كلّ شيء، وثانياً خوفه من أن يؤذيه الآخر بغضّ النّظر على من يقع الإثم، وفي الوقت الذي يجاهر البعض بالحديث عن هذه الخلافات، يكتمها عندما نريد نقلها إلى الإعلام، لذا سنكتفي، اليوم، بإلقاء الضّوء على هذه المعضلة ونضيفها إلى معضلات كثيرات تعانيها ثقافتنا، لكن هذا لا يعني ألّا ندّعم قولنا بما تيّسر ممّا قرأنا سواء سلبياً أم إيجابياً، إذ يقول الفنّان التّشكيلي وفيق بوشي: “أمّا عن لوحة البورتريه التي رسمتُ فيها وجهي، فتعود إلى مرحلة قديمة إلى أستاذي ناظم الجعفري، الذي قال لي يوماً: “حينما تتعلم رسم نفسك تكون تعلمت الرسم”.

وفي الفنّ، نتذكّر المخرج المصري صلاح أبو سيف حين كان يدرّس في معهد السّينما وكان لديه طالب شارد الذّهن دائماً، بدا له وكأنّه تائه يبحث عن شيء ما، يقول أبو سيف: “لم أتوقّع أبداً أن يصبح هذا الشّاب مخرجاً جيّداً، أو حتّى أن يكمل في المجال، فتحصيله كان ضعيفاً، أو ربّما هذا ما كنت أظنّه، لكن المفاجأة هي أنّ الطّالب هو عاطف الطّيب الذي وُصف فيما بعد بأنّه أحد مؤسسي الواقعية الحديثة”، مضيفاً: “عندما شاهدت فيلم “سوّاق الأتوبيس” كان صدمةً بالنّسبة إليّ، لما يحمله من جماليات صورة وإمكانيات مخرج، وبحكم أنّي تعلّمت ألّا أحكم على مخرج إلّا بعد أعمال عدّة، كان عاطف الطّيب يبهرني من عمل إلى آخر، وعلى الرّغم من عمره الفنّي القصير، لكن له ثلاثة أفلام في قائمة أفضل فيلم مصري، من بينهم “سوّاق الأتوبيس” الذي يحتلّ المركز الثّامن”.

وختاماً، ومن باب الحكمة، نتوقّف عند أرسطو أفضل تلامذة أفلاطون، لكنّه كان أكبر منتقديه، وعندما سُئل عن السّبب الذي لأجله وجّه انتقاداته الصّارمة لأستاذه، أجاب: “أُحب أفلاطون، لكنّ حبّي للحقيقة أعظم”.