الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

هيكاتي..!

أجل، ها هي الحيرة تطوّقني وتفتك بي، وها هي الأنفاس تضيق عليّ، وها هو جسدي مخدّر لكأنّ جاثوماً هبط عليه في غفلة مني، وأنا أتابع ما يجري في قطاع غزة والضفة الفلسطينية، منذ 75 يوماً وأزيد، هنا دم في الطرقات، وأمام عتبات البيوت، دم في باحات المشافي والمدارس، دم بين الأشجار وفوق الأعشاب وتحت النوافذ، دم على الثياب والأيدي والوجوه، ودم على أرغفة الخبز وأكياس الطحين وأيدي الخبازات وأواني الطعام، دم على الكتب والأوراق والكراريس والحقائب، دم في الحبر والدلاء والقفف والسلال والجرار، دم يخالط الطين والأنفاس وبواقي طعام وقطع سوداء لكأنها قطع خبز أو فحم في أيدي أطفال جباليا، والمغراقة، وبيت حانون، والزيتون، وخان يونس، ورفح، دم يطول الزوايا والكلام والأمنيات والشّهقات، دم يماشي الخوف والنداءات والظلال التي سقطت بسقوط البيوت تحت همجية الطائرات والقنابل والصواريخ وجنازير الدبابات، دم على الأكفان والجثث، دم في القبور الجماعية وبيوت الاسبست والزينكو، دم في المقاهي التي كانت، وفي الأسواق التي كانت، وفوق عربات الخضار،وداخل السحاحير، وعلى أكياس الخيش، وأروقة الكتان المقطّعة، دم طيّ حروف الكلمات المسطورة على الحيطان، دم هنا.. في المساجد والكنائس والتكايا والزوايا والخانات، دم في المطاعم التي كانت، وفي الأفران التي انهارت على وجوهها، دم يلفّ قناني  الماء والضحكات والأسئلة والأجوبة التي غرقت في احتجاب رهيب، دم على مشاتل النعناع والحبق والزنابق، دم على أعشاش الحمام، دم على الصّور المعلّقة فوق المسامير على الحيطان، دم على الثياب المبلولة المعلّقة على الحبال المرتخية، دم حشو الخوف والرّعب واللحظة الساقطة، دم ينهمر في الفجر والمساء وقيلولة الظهيرة، دم على العيون، والشفاه الرّاجفة، دمدمدمدمدمدم  دم…!

يا إلهي، ها أنذا، وكيفما تلفّت أرى الدم يقود الدم، والدم ينادي الدم، والدم يجالس الدم، والدم يمشي إلى الدم، والدم يروي للدم، وهناك أيضاً، دم في القدس، ورام الله، وحلحول، ومخيّم العروب في الخليل، وفي جنين، ونابلس، والخليل، ويعبد، وقلقيلية، وطوباس.. دم بارق شهيد، دم ناهض يتطاير ويتقافز، دم يغادر الأجساد منتفضاً ثم يعود إلى الأجساد  لكأنه القناطر والأقواس الملوّنة التي يعالق بعضها بعضاً، دم يحيط به دم، ودم يجاوره دم، ودم يعانق دم، ودم يهمهم آخاً طليقة، فيجيبه دم بآخ طليقة أخرى، وأبحث عن الانطفاء فلا أجده، هنا.. وهناك لا انطفاء، أصرخ مثل وحش ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، فأنادي، أين أهل الماء والخبز والملح، فلا أحد يرميني بجواب، ولا رياح ولا مطر ولا ثلج ولا طيور تأتي بجواب، لقد باتت الإجابات في قيعان الجرار الحجرية بياتاً  علامته الألم الجريح، فأستنجد بكتابي، أمدّ يدي إليه، آخذه بقوة، وأهزّه بكلّ عزمي كي تهدأ  أنفاسي التي صارت ريحاً لغوباً، فيأخذ بصري إلى صفحة من صفحات كتب  الإغريق القديمة، صفحة من الميثولوجيا التي حبّروها وحفظوها، فأقرأ عن ربة من ربّات الليل والظلمة، اسمها هيكاتي، اختارت من الدنيا العتمة كي تكون زمنها، فصارت لها راعية، لتظّل طوال الليل واقفة على مفارق الطرق متحملة الرّيح الشديدة الباردة، والأمطار الغزيرة، والثلوج السّاقطة من أجل أن تنشر فيها الرّعب والخوف، ومن أجل أن تصير هذه المفارق بيوتَ ليلٍ للأشباح والسّحر والإخافة والصفير والنداءات الغريبة المهموسة همساً والمعلنة جهراً، إنها تحشدُ كلّ أشكال الخوف والرّعب وألوانهما في مفارق الطرق لأنها ملتقى البشر، وملتقى الحوار، وملتقى الأسئلة الباحثة عن الإجابات، فهي لا تريد نعمة التلاقي، ولا الحوار، ولا الطمأنينة، ولا السلام، ولا المؤانسة. أمّا مفارق الطرق والعتمة، فهما ليسا السبب في انتشار الخوف والرّعب.. وإنما السبب هو هيكاتي، راعيةُ العتمة وحاميتُها والساهرةُ على بقائها، والعتمة ليست سوى السجون، والقهر، والظلم، والانتقال من عالم الضوء إلى عالم الحلكة.

هيكاتي أقامت، وفي ليلها الطويل المخيف الرّاعب، سوراً عالياً بينها وبين أضداد العتمة، فهي عاشقة لها وتقدّسها، تعمل كلّ ما يرضي غرورها في العتمة، وببراعة شديدة، تقتل، وتغتصب، وتقطّع، وتدمّر، وتخرّب، وتكذب، وتزوّر، وتزيّف، وتدّعي، وتزأر حيناً، وتموء حيناً، تهدم دور العبادة، وكأنها تقلّم أظفارها، وتدوس الأجساد والكرامات والمعاني والفضائل وكتب التاريخ وحافظات القيم.. وكأنها تهرس قطعة من راحة الحلقوم بين أضراسها، ترمي الآخرين في حفائر الموت من فوق أجراس الكنائس والمآذن وأسطحة البيوت من دون أن يخالطها ندم، وتبقر بطون الحوامل وكأنها تقشّر برتقالة، تزيح القرى بيد، وحقول القمح بيد، وتطوي أحلام الناس بيد ثالثة معوان..  وكأنها تلهو بغرّتها..

هيكاتي راعية العتمة تعرف أنّ زمنها قصير، وفتوتها قصيرة، لهذا تعمل من أجل أن يصير الخراب تاريخاً لها، وتصير الدماء ألوانها المختارة، وتصير المقابر زروعها، ولذلك لا جلد لها على المغالبة، تريد الظفر بصراخ الناس وخوفهم ورعبهم ودمار بيوتهم وصراخ أطفالهم، ودمهم، ودم ماشيتهم، ودم رمانهم، ودم نعناعهم، ودم طيورهم، وأحلامهم.. بسرعة خاطفة كي لا يدركها الضوء.

وهيكاتي، تفرح حين ترى الأنهار ملأى بالدم، والبحيرات تفيض به، وحين ترى المقابر  تمتلئ بسكنها وتستطيل، يفرحها حين ترى العتمة والرّعب اثنين يتقاودان، أحدهما يطارد الآخر في سواد غامق  من أجل الظفر بروح جديدة.

يا الهي، إذاً هيكاتي لم تندثر بعد، لم تمت، لم تذهب بذهاب ذلك الزمن البعيد، إنها موجودة الآن، ها هي في ظلمة شاسعة يصنعها أهل القوة، أهل الغرب الذين مجّدوا العتمة كي تكون حياة للآخرين من الماء إلى الماء، ومن المعمور إلى المعمور، وطيّها الرّعب والإخافة والموت..، ومن هذا العالم فلسطين بكامل جغرافيتها التي تخرّبها هيكاتي الجديدة أمام مرأى أهل القوة وبمباركتهم، وإلا لماذا لايرون هذا الظلموت المتكاثر الواقع على الفلسطينيين.

هيكاتي كانت، في الزمن القديم، راعية للعتمة والرّعب، وكانت لها عربدة مهولة لأنها ما كانت تعرف معاني النور، لأن العالم آنذاك كان عالم عتمة حالكة، وعالم توحش.

أمّا اليوم، ف هيكاتي الجديدة تُدير ظهرها للنور المنبعث من الكتب والتاريخ ودور العمران والعقول، فهي، ومنذ 75 سنة، طاحون دم للأجساد الفلسطينية، ومعصرة لأرواحهم، ومحرقة لأحلامهم..ناسيةً أن لكلّ شيء خاتمة، وأن الخاتمة اقتربت، وأن مال العتمة هو الاندحار.. ثم الزوال!

حسن حميد

Hasanhamid55@yahoo.com