ثقافةصحيفة البعث

العزف التضليلي وعودة غودو

رائد خليل

هي لحظة الترقب وحبس الأنفاس.. تفكيرٌ وتقدّم على هذه الرقعة المصنوعة بعناية اللونين الأسود والأبيض، حددوا لك مسارات التنقل والهروب إلى الأمام.. هي البيادق المبتورة الساقين واليدين التي تصرخ بأعلى عنفوان لن نقف مكتوفي الأيدي..! صرخة مدوية على مساحةٍ يتقاطع فيها سواد الانكسارات بكل ذرائعيته مع بياض التفاؤل. إذاً..هناك في البعيد العميق سؤال الواقع و”الماريونيت” تجيب.. خيوط اللحظة والإيقاع الممسوس باشتباك الأضداد..تترنح الخطوات على صفير موحش.. وما نزال نبحث عن الأنا وأطيافها العالقة على شفة السؤال والفصام معاً، في مسرح أبعد من شكل وإيماءة وأبعد من صرخات نور وظل على امتداد الأجساد. إذاً.. هو الغروتيسك بكل ملامحه وملاحمه، تفصيل العمق في سراديب التجريب.. مرة اعترف “هوغو” بأنها مرافعة لمصلحة التغريب وإزالة القداسة عن القيم وإحداث شك لينتهي العمل على تشويش لاستعمالات التقليدية للكوميديا والتراجيديا معاً.

ومرة سُئل “صموئيل بيكت”: “من هو غودو؟”، فأجاب: “لا أعرف عن هذه المسرحية أكثر مما يعرف هذا أو ذاك من الذين يقرؤون المسرحية بيقظة وانتباه، لا أعرف عن الشخصيات أكثر مما تقوله هي، أكثر مما تفعله وماذا حدث لها ومعها، لا أعرف من هو غودو ومن يكون، لا أعرف حتى إذا كان موجوداً أم غير موجود!”.

طبعاً ، ما نزال في انتظار أن تتغير النظرة النّمطية لصور الواقع الرمزية، وما نزال نبحث عن ضوء يعيد ألق المفاهيم إلى ساحة الاشتغال الفكري الموسوم بطلاوة الابتكار وأصالة الرؤية وعمقها.

نعم، كثيرة هي المشاهد، وكثيرون هم المتسابقون للفوز بسرقة ضوء ما أو التقاط فتاته، ففي ثمانينيات القرن الماضي، كتبت مجلة “المختار” اللندنية رسالة شكر من ناقد فني واعد في الصف الثالث الابتدائي، كان قد أرسلها إلى مُخرِجٍ من المسرح الجامعي قدّم عمله للأطفال، جاء فيها: “أحببت المسرحية جداً.. لقد كانت أفضل مسرحية شاهدتها على الإطلاق.. إنها المرة الأولى التي أحضر فيها مسرحية”.

وفي معادلتي المشاهدة والإعجاب، هناك أسئلة ملونة تندرج في إطار انطباعي ذاتي يقف على حافة العمل و تضاريسه في لحظة تأمل محمولة بمقامات اكتشاف من أوسع أبوابها.

إذاً، بين عنصر الإدهاش والجنوح اللفظي للمتفردين في خدش حس المتلقي، بوح مارق مسربل بدقائق السراب والوهم.. ومخطئ من يعتقد أنّ العزف التضليلي على أوتار ادهاشه هو حالة سرمدية، يسرقون الضوء ويستحوذون التصفيق علّه يحيي التوازن خوفاً من سقوط عاجل.