أوكرانيا.. حرب الولايات المتحدة والناتو الخاسرة
عناية ناصر
إن أحد الجوانب الغامضة في السياسة الدولية هو أن الدول الكبرى والمتفوّقة عسكرياً خسرت بشكل منهجي حروبها في دول أصغر على مدى الخمسين عاماً الماضية، من فيتنام إلى أوكرانيا. والخسارة هنا تعني الهزيمة العسكرية، والإجبار على الخروج، ومواجهة الفشل عندما يتعلق الأمر بتحقيق الدوافع النبيلة المعلنة مثل إدخال حقوق الإنسان أو الديمقراطية أو الحرية أو تحرير المرأة. ونظراً للتكاليف البشرية الهائلة، وخاصة في الشرق الأوسط، فإن “الحرب العالمية على الإرهاب” التي تشنّها الولايات المتحدة منذ الحادي عشر من أيلول 2001 هي أيضاً كارثة فكرية وأخلاقية.
وتندرج الولايات المتحدة ضمن فئة قائمة بذاتها وفي الحروب الخاسرة أيضاً بوصفها الدولة الأكثر إنفاقاً عسكرياً على مستوى العالم، والدولة الأكثر تدخلاً، والمحاربة، والمحتلة، وبانية القواعد العالمية صاحبة السياسة الخارجية الأكثر عسكرة. وهي الآن تفقد بسرعة شرعيتها وأهميتها وصدقيّتها في نظر معظم دول العالم خارج الولايات المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي و”معاهدة التعاون والأمن المتبادل بين الولايات المتحدة واليابان” واتفاقية “أوكوس”.
أولاً، كانت كل هذه المغامرات العسكرية الإمبريالية معادية للفكر بشكل مؤسف ومشبعة بغطرسة القوة وعناصر العنصرية. ثانياً، بعد الإخفاقات والهزائم التي يمكن التنبّؤ بها تماماً، كما حدث في العراق، يأتي وقت لم تعُد فيه الدعاية والعمليات النفسية والتأثير الإعلامي تفي بالغرض. ويأتي وقت أيضاً لا يستطيع فيه حتى أكبر منفق عسكري واقتصادي تمويل إدمانه على الأسلحة، فتنضب ترساناته من الأسلحة والذخيرة، وهذا ما يسمّى الإفراط في التوسّع وتقليص الشرعية في نظر الآخرين، إنه يسمّى النزعة العسكرية حتى الموت وتتحوّل إلى تراجع إمبريالي وسقوط في نهاية المطاف. لم تدُم أيّ إمبراطورية إلى الأبد، وستكون إمبراطورية الولايات المتحدة وحلف الناتو الأخيرة. لا أحد أحمق لدرجة الاعتقاد أنه في عالم متنوّع بشكل لا يصدق، سيقبل الجميع لاعباً واحداً ليكون النظام المهيمن على الجميع ويشكّل الآخرين على صورته الخاصة. لقد أصبحت الأوقات التبشيرية شيئاً من الماضي.
أعلن الأمين العام لحلف الناتو “ينس ستولتنبرغ” أن أوكرانيا قطعت شوطاً طويلاً منذ أن اتخذنا القرار في عام 2008 بأن الخطوة التالية ستكون وضع خطة عمل لنيل العضوية، وأوكرانيا أصبحت قريبة للغاية من الحلف، وحان الوقت أن ينعكس ذلك في كل قرارات الحلف، وذلك في انتهاك صارخ للوعود التي قطعت على نحو لا يقبل الجدل للرئيس السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف، وهذه كانت مشاعر أحادية القطب تقول إننا نستطيع أن نفعل كل ما نريد.
رفض الناتو الاستماع إلى المخاوف الأمنية المشروعة لروسيا، ولم يهتم أيضاً بحقيقة أن هناك أقلية ضئيلة بين الشعب الأوكراني تؤيد العضوية في الناتو. وبدلاً من ذلك، كان تغيير النظام في كييف هو كل ما هو مطلوب: تنصيب قيادة مؤيّدة للغرب، ودفع أجور جيدة لها، ومنحها عرضاً لا يمكنها رفضه من خلال اجتذابها خطوة بخطوة للانضمام إلى التحالف الآخذ في التوسع. ثم دخلت روسيا الحرب، وكان لا بد من إضافة الملح على الجرح: سوف نساعدك، يا أوكرانيا، بقدر ما تحتاجين لكسب حربنا ضد روسيا و”إضعافها”. سيتم دعمك، فقط قاتلي من أجلنا حتى آخر أوكراني.
وهكذا، فإن الجزء الأول يتعلق بالتوسّع والتودّد، والجزء الثاني يتعلق بالعسكرة والحرب بالوكالة، ولكن دون عضوية الناتو، الأمر الذي من شأنه أن يلزم قوات الناتو بالأراضي الأوكرانية ويكلف الناتو خسائر في الأرواح. والآن يأتي الجزء الثالث، وهو قضية التخلي عن أوكرانيا والخلاف المدمّر الذي يتعيّن حلّه من خلال الاتحاد الأوروبي المتعثّر.
وهنا يأتي الحديث عن “الصراع الفلسطيني الإسرائيلي”، حيث تضاءل الاهتمام السياسي والإعلامي بأوكرانيا بشكل كبير، وتوقف الهجوم الذي شنّته أوكرانيا، وتسارعت الصراعات الداخلية في كييف.
لقد بدأ الناتو لعبة إلقاء اللوم: لقد قدّمنا لكم كل ما في وسعنا من الأسلحة والذخيرة والتدريب، ولكنكم لم تديروا الصراع العسكري بشكل جيد، إن قيادتكم تنهار، ولم تشعروا بالامتنان لنا كما توقعنا، وهكذا. ولا تتوقّعوا عضوية الناتو أو الاتحاد الأوروبي في المستقبل القريب بغض النظر عمّا نقوله للجمهور.
ومن الواضح أنه لا أحد يريد أن يرتبط بمثل هذا الفشل السياسي والاقتصادي والعسكري والقانوني والأخلاقي. وبدلاً من اعتراف قادة الولايات المتحدة وحلف الناتو بذلك، استمرّوا به.
لم يتمكّن الاتحاد الأوروبي من تطوير سياساته الخاصة بشأن الصراع في أوكرانيا، حيث اتبع الولايات المتحدة بشكل أعمى، وفرض أقسى العقوبات في التاريخ وعزل روسيا، أكبر دولة أوروبية، عن أوروبا بشكل كامل. وقد سمح للسويد وفنلندا عن طيب خاطر بالانضمام إلى حلف الناتو دون سبب جدّي. ثم أعقب ذلك تدمير خطوط أنابيب نورد ستريم، وهو أكبر تدمير للبنية التحتية على الإطلاق، وعلى الأرجح نفّذته الولايات المتحدة لأن الرئيس جو بايدن وغيره من القادة قالوا إنهم سيفعلون ذلك، وأيضاً بسبب الصمت والافتقار إلى التقارير الرسمية التي تشرح من فعل ذلك.
لقد أصبحت مستودعات الأسلحة فارغة، والآن، وبتعبير أكثر فجاجة، يبدو الاتحاد متذبذباً على المستوى السياسي على نحو متزايد في حين يمرّ بأعمق أزمة اقتصادية يواجهها على الإطلاق، كما يبدو الوضع الاقتصادي والسياسي في ألمانيا قاتماً. ومن المرجّح أن تتأثر منطقة الاتحاد الأوروبي بشدة بالتداعيات الطويلة الأمد لأعمال العنف في الشرق الأوسط. وكان ردّ فعل الاتحاد الأوروبي غير المحسوب على العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا سبباً في منع أي تحليل للعواقب المحتملة في الأمد القريب والمتوسط والطويل لهذه التدابير، التي كانت غير مدروسة وغير عقلانية. ومن ناحية أخرى فإن روسيا سوف تخرج من هذه الحرب بشكل أفضل كثيراً من الاتحاد الأوروبي.
ورغم أن الولايات المتحدة تتمتع بحماية جيدة نسبياً من العواقب السلبية المترتبة على سياساتها، إلا أن حلفاءها الأوروبيين ليسوا كذلك. إن الأعباء التي يتحمّلها الاقتصاد المدني نتيجة للحرب، والنزعة العسكرية، وإعادة التسلح على نطاق واسع، وتدفقات اللاجئين، وبالتالي استنفاد الموارد المطلوبة بشدة لبناء البنية الأساسية الأوروبية، وتدابير تغيّر المناخ، واستثمارات الرعاية الاجتماعية، ترسم صورة قاتمة للمستقبل.
ومن المرجّح أن يتم الإنفاق على شراء الأسلحة على حساب البرامج المحلية، وعندها سوف تضطر الأجيال القادمة إلى دفع ثمن ذلك. ومع مرور الوقت، سوف يخرج الناس إلى الشوارع، لأنفسهم أو لدعم الفلسطينيين، على سبيل المثال. وفي الوقت نفسه، سوف يشهد اليمين المتطرّف فجره مع تفاقم الأزمة الاقتصادية. وفي حين ينحدر الغرب وينهار بصورة أكثر تذمّراً وليس بعنف، فإن أحد السيناريوهات في العقد المقبل أو نحو ذلك قد يحتوي على تفتّت منظمة حلف الناتو واحتمال تفكّكها.