دراساتصحيفة البعث

تجويع القطاع جريمة حرب

د.معن منيف سليمان

تستخدم حكومة الكيان الصهيوني تجويع المدنيين أسلوباً للحرب ضدّ المدنيين في قطاع غزّة بعد إخفاقها في تحقيق مخطّطها بتهجير سكان القطاع بالقوّة، متجاهلة جميع النداءات الأممية والانتقادات الحقوقية والغضب الشعبي المتزايد عالمياً، تحت مظلّة من التواطؤ الدولي والعجز العربي الواضحين. وبينما يمنع جيش الاحتلال الإسرائيلي إيصال المياه، والغذاء، والوقود، يعرقل عمداً المساعدات الإنسانية، ويبدو أنه يجرّف المناطق الزراعية، ويحرم السكان المدنيين من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، ما يشكّل جريمة حرب.

منذ منتصف شهر تشرين الأول الماضي أُغلقت مرافق الصرف الصحي وتحلية المياه بسبب نقص الوقود والكهرباء، وأصبحت غير صالحة للعمل إلى حدّ كبير. ومنذ ذلك الحين يعاني سكان قطاع غزّة ندرة المياه الصالحة للشرب، والصرف الصحي، والنظافة الشخصية، ونقص الغذاء الذي أدّى إلى خلوّ المتاجر والطوابير الطويلة، والأسعار الباهظة، حيث يمضي السكان معظم وقتهم بحثاً مستمرّاً عن الأشياء اللازمة للعيش.

ويحرم الكيان سكان غزّة من الغذاء والمياه، وهي سياسة حثّ عليها مسؤولون إسرائيليون كبار، أو أيّدوها وتعكس نية تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب. وقد بدت هذه السياسة واضحة في العمليات العسكرية التي تنفّذها القوات الإسرائيلية.

يأتي ذلك بينما صرّح مسؤولون اسرائيليون آخرون علناً بأن المساعدات الإنسانية لغزّة ستكون مشروطة، إما بالإفراج عن المحتجزين لدى حركة المقاومة، وإما بتدمير المقاومة.

وكان الكيان سمح بدخول 360 شاحنة مساعدات من أصل 360 ألف شاحنة مطلوبة، ولم يسمح بوصول أية مساعدات إلى شمالي القطاع، كما منع الطواقم الطبية الموجودة شمالي القطاع من الوصول إلى مخازن الأدوية لأنه يقصف كل شيء، ما يعني أنه يرتكب إبادة جماعية بالتجويع والتعطيش وتهيئة الظروف لنشر الأوبئة.

إن الكيان يحاول ابتزاز المقاومة وتأليب السكان عليها، لكنه في الوقت نفسه يمضي في تنفيذ مخطط التهجير على نهج كل الأنظمة النازية عبر التاريخ من خلال التدمير والتجويع وجعل المكان غير قابل لأي حياة. وقد تجاوز حصار غزّة الذي يفرضه الكيان الصهيوني حصار النازيين لمدينة لينينغراد (سان بطرسبرغ)، إذ يسعى لجعل الحياة في القطاع مستحيلة، وتحويله إلى جحيم لتنفيذ مخطط التهجير الذي أخفق في تنفيذه بالقوة بسبب صمود أهل غزّة الأسطوري.

وإلى جانب الحصار الساحق، ألحقت غارات الجيش الإسرائيلي الجوية المكثّفة على القطاع أضراراً واسعة أو دمّرت المواد الضرورية لبقاء السكان المدنيين، حيث دمّرت المخابز ومطاحن الحبوب، ومرافق الزراعة التي أصبحت شبه مستحيلة، فضلاً عن تدمير شبكات الطرق ما صعّب على المنظمات الإنسانية إيصال المساعدات إلى من يحتاجون إليها.

وتواجه الماشية في شمالي القطاع التجويع بسبب نقص العلف والمياه، وأصبح المزارعون يهجرون محاصيلهم بشكل متزايد، وبات التلف يصيب المحاصيل بسبب شح الوقود اللازم لضخ مياه الري. وأدّت المشكلات القائمة، مثل شحّ المياه وتقييد الوصول إلى الأراضي الزراعية القريبة من السياج الحدودي، إلى تفاقم الصعوبات التي يواجهها المزارعون المحلّيون، الذين نزح العديد منهم. وقد سجّلت خسائر غزّة اليومية في الإنتاج الزراعي بأنها لا تقل عن 1.6 مليون دولار أمريكي.

لقد دمّرت الأعمال القتالية أكثر من ثلث الأراضي الزراعية في شمالي القطاع، إذ تُشير صور الأقمار الصناعية إلى أنه منذ بدء العدوان الإسرائيلي البرّي في 27 تشرين الأول الماضي، تم تجريف أراضٍ زراعية، منها البساتين والبيوت البلاستيكية والمزارع في شمالي غزّة، على يد “الجيش الإسرائيلي”.

إن الحصار الإسرائيلي المستمرّ على قطاع غزّة، فضلاً عن إغلاقه المستمر يرقيان إلى مصافّ العقاب الجماعي للسكان المدنيين، وهو جريمة حرب. ولأن “إسرائيل” هي القوة المحتلّة في غزّة بموجب “اتفاقية جنيف الرابعة”، أصبح من واجبها ضمان حصول السكان المدنيين على الغذاء والإمدادات الطبية.

الكارثة الإنسانية المتفاقمة في غزّة تتطلب استجابة عاجلة وفعّالة من المجتمع الدولي. وعلى الرغم من أن واشنطن ودولاً أخرى بدأت الحديث عن ضرورة إقرار هدنة إنسانية فإن المراقبين يرون أن هذه الدول تسير في هذا الاتجاه ببطء يخدم خطط الكيان لتجويع المواطنين الفلسطينيين في غزّة، في تجلٍّ كبير لعجز العالم عن تطبيق القانون الدولي على الجميع، بل إن الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين يواصلون توفير الغطاء السياسي والعسكري للكيان.

ويحظر القانون الإنساني الدولي، أو قوانين الحرب، تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب. وينصّ “نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية” على أن تجويع المدنيين عمداً “بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمّد عرقلة الإمدادات الغوثية” هو جريمة حرب. لا يتطلب القصد الإجرامي اعتراف المهاجم، ولكن يمكن أيضاً استنتاجه من مجمل ملابسات الحملة العسكرية.

وتتلخّص المطالبات الحقوقية بدعوة الحكومة الإسرائيلية أن تتوقف فوراً عن استخدام تجويع المدنيين أسلوباً للحرب. والالتزام بحظر الهجمات على الأهداف الضرورية لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة وترفع حصارها عن قطاع غزّة، كما أن على الحكومة أن تعيد توفير المياه والكهرباء، وتسمح بدخول الغذاء والمساعدات الطبية والوقود التي تمسّ الحاجة إليها إلى غزّة عبر المعابر، بما فيها كرم أبو سالم.

ويبقى القول: إن الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي مطالبتان بتوفير مظلّة أمان للفلسطينيين في غزّة، بالقوة وبكل الطرق كبداية لإيجاد حالة دولية لمنع الكيان من التعامل بمنطق “الخارج عن القانون” الذي لا يحاسب لأنه مدعوم من القوة الأكبر في العالم. وعلى العرب أن يتحدوا جميعاً على كسر الحصار ودخول معبر رفح بالقوة، وأن يقولوا لداعمي الكيان “لا نقطة وقود لغزّة يعني لا نقطة وقود لكم”. أي استخدام النفط كسلاح في هذه المعركة.