الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

كرامة

عبد الكريم النّاعم     

في تعريف الكرامة قد نحتاج إلى صفحات طويلة، وكيلا نُطيل نقول، هي كلّ ما يساعد على احترام الانسان، من لُقمة الخبز حتى حريّة المعتقد، وباقي الحريات المتعارَف عليها.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ تفصيلات ما يتعلّق بالكرامة، رغم اتّفاقنا عليها، فإّنّها تختلف بين بلد وآخر، والزمن المُعاش واحد، فأنْ يتقدّم شرطي من سائق سيّارة، في بلد من تلك البلدان التي سبقتْنا مَدَنيّاً، ..ويطلب أوراق سيارته، دون أنّ يحييه، أي الشرطي يحيّي السائق، فذلك يُشعر السائق بأنّ ثمّة شيئاً سلبيّاً يمسّ كرامته، بينما أنْ يحدث ذلك في بلد من البلدان التي نزعم أنّها طامحة للنموّ، ويطلب الأوراق، ويشير بيده للسائق أن ينصرف، دون أيّ غمزة أو لمزة، ودون أن يسمع كلمة ” انقلع”، فذلك يعني أن حظّاً طيّباً قد صادف السائق.
رغم الفارق الكبير بين هنا وهناك، فسوف أتوقّف قليلاً عند بعض ما قاله نور ثروب فراي، وهو أحد الأدمغة المعدودة في القرن العشرين، وهو يتحدّث عن (حضارة الغرب)، فيقول: “إنّ الحضارة التي نعيشها في هذه الأيام هي بنية تكنلوجيّة هائلة…” .. “.. إنّها بنية رائعة سوى أنّها خالية من ( الكرامة) الانسانيّة” (التقويس من عندي).
وقفة سريعة عند مفردة (الحضارة) المذكورة، فهي في عُرْف آخرين، (مدنيّة) لا حضارة، لأنّ الحضارة عندهم هي الإنجازات التي تشمل المادّة والرّوح، في كلّ ماله شأن بتفتّح وعي الإنسان، وإعزاز قيمته،
نعود لما قاله فراي، ونتساءل: تُرى إذا كان الإنسان في المجتمعات التي هو منها، يجد العمل، وحين يفقده تتكفّل الدولة بما يُبقيه حيّاً، على عكس ما في الولايات المتّحدة الأمريكيّة التي ينتشر فيها آلاف مؤلَّفة من الذين يبيتون في الشوارع، لا مأوى لهم، ولا طعام، وثمّة من جعل سيارته بيته وسكَنه، نقول (سكَن) لِما فيها من حضور السّكينة، والوطن الذي لا يجد فيه المواطن سكَنَه هو وطن مُنتَقَص، تُرى على ضوء ذلك أين هي الكرامة المهدورة؟!!
يعيشون بلا عوَز، في ظلّ سيادة القانون، حرياتهم الشخصيّة لا يمسّها ماسّ، فما المقصود بـ (الكرامة) هنا؟!!
ما أراه أنّ فراي يحتجّ على تحويل الإنسان في تلك المجتمعات إلى كائن يخدم الآلة، الآلة التي تخدم الرأسماليّة المتوحّشة.
يقول أحد اليوغيين “إنّ الآلات هي التي تخلق الصّخب”. فهل يقصد الصّخب الذي يُفقِد الكرامة، ويتلف الأعصاب، ويشوّش على سكينة الروح؟ لعلّه ذلك.
الشاعر الفرنسي الشهير آراغون يقول: “لقد اختُرِع الكثير من السّحر والآلات، بحيث لا يمكن إلاّ أن يترافق ذلك بإهانات جديدة، وآلام جديدة، ليس فقط آلام في العظام والأعصاب، بل في الأمل، واليأس، في اختلاف درجة المعرفة، وما أعرف أنا”.
مُحِقّ مَن يتساءل ما علاقة مجتمعاتنا التي نتفاءل بقولنا عنها الطّامحة إلى النموّ.. ما علاقتها بجوهر الأفكار الآنفة؟!!
هنا، لا بدّ من التذكير بأنّ دوَل المركز ما زالت هي هي، مع حدوث انزياحات تحتاج لأزمنة تالية لتُعطي نتائجها المرجوّة، وهذا يعني أنّنا ما زلنا منطقةَ تصريف منتجات الغرب، بشقّيها المادي وغير المادي، وأنّ ما يُنتجه هذا الغرب من أفكار ورؤى سوف يؤثّر علينا، نقول هذا مع إدراكنا لحجم التراجع الذي يُعاني منه الغرب من حيث الابداعات الروحانيّة، بسبب تغليب روح التجارة، والربح على ما عداه، وإلاّ فأين إبداعات بيتهوفن، وغوته، وأمثالهما من ذلك الرّعيل.
إنّ الأمم التي يصيبها الخواء في إبداعاتها، قد تدوم زمناً بفعل قوّة التسارع، وذلك الخواء قد يشكّل علامة بارزة من علامات التراجع والأفول…
aaalnaem@gmail.com