دراساتصحيفة البعث

مفاوضات سدّ النهضة .. سلسلة إخفاقات متتالية

د.معن منيف سليمان

خاضت كل من دول نهر النيل مصر والسودان وإثيوبيا مفاوضات طويلة خلال عقد من الزمن دون الوصول إلى أيّ اتفاق من شأنه تأمين مصالح الدول الثلاثة، وذلك بشأن قواعد تشغيل وملء أكبر سدّ في قارة أفريقيا. ويمثّل سدّ النهضة محور توتّرات إقليمية بين هذه الدول منذ أن بدأت أديس أبابا بتشييده عام 2011.

يُعدّ سدّ النهضة السدّ الكهرومائي الضخم حيوياً بالنسبة لأديس أبابا، لأنّه سيُنتج عند الانتهاء من تشغيله أكثر من خمسة آلاف ميغاوات من شأنها مضاعفة إنتاج الكهرباء التي لا تتوفّر حالياً سوى لنصف السكان البالغ عددهم 120 مليون نسمة.

وتعدّ مصر والسودان أنّ المشروع يشكّل تهديداً لإمدادات المياه لهما، وطلبتا مراراً من أديس أبابا التوقّف عن ملء السد حتّى يتمّ التوصّل إلى اتفاق حول كيفية عمله. لكنّ إثيوبيا تواصل عمليات التعبئة، وكانت أحدث عملية تعبئة له في العاشر من أيلول الماضي، وهو ما عدّته القاهرة انتهاكاً جديداً من أديس أبابا وثقلاً جديداً على المفاوضات.

وعلى الرغم من أن جذور الصراع تمتدّ إلى القرن الماضي، إلا أن مشكلة سدّ النهضة خرجت إلى العلن منذ العام 2011، حين أعلنت إثيوبيا منفردة عن مشروع السدّ، بدون إبلاغ أو استشارة مصر والسودان، حيث عدّت ذلك شأناً داخلياً يتعلّق بالسيادة الإثيوبية، ما قابله معارضة مصرية وسودانية نظراً لاعتمادهما الكبير على مياه نهر النيل التي تقلّصت حصتهما من مياه النهر دون الحدّ الذي تقدّره الأمم المتحدة بنحو 500 متر. ما خلّف مشكلة في ندرة الموارد المائية، والعجز في نصيب الفرد من المياه وخاصة في مصر، حيث أدّى ذلك إلى تقليل مساحات زراعة بعض المحاصيل الإستراتيجية واستيراد مياه الشرب بالعملة الصعبة.

وتكمن أسباب المشكلة في أن إثيوبيا تسعى إلى الحصول على حصّة تقدّر بنحو 18 مليار متر مكعب من حصّة مصر والسودان البالغة 74 مليار متر مكعب (55.5 مليار متر مكعب نصيب مصر، و 18.5 مليار متر مكعب حصة السودان)، وبيع هذه الحصّة إلى مصر أو أية دولة خليجية أخرى ترغب في استزراع ملايين الأفدنة في السودان أو مصر أو غيرها. ما سيحوّل المياه إلى سلعة، ولن تستطيع إثيوبيا استخدامها، لأنها لا تستطيع احتجازها أو منعها من المرور إلا في حالة واحدة هو إقامة سدّ جديد، وهذا لن تسمح به مصر.

ومنذ العام 2011، دخلت مصر والسودان مع إثيوبيا في مفاوضات طويلة، أملاً في الوصول لاتفاق، ولكن دون أيّة نتيجة مثمرة. إذ تتمسّك القاهرة والخرطوم بالتوصل أولاً إلى اتفاق ملزم مع أديس أبابا بشأن ملء وتشغيل السدّ، لضمان استمرار تدفق حصتيهما المائية من نهر النيل، ولكن إثيوبيا ترفض ذلك وتؤكّد أنها لا تستهدف الإضرار بدولتي مصب النيل، مصر والسودان.

كان آخر إخفاق لجولة المفاوضات الماراثونية بين الأطراف المتنازعة في الشهر الجاري كانون الأول، وسلف أن تمّ الإعلان عن إخفاق مفاوضات “الفرصة الأخيرة” في عاصمة الكونغو كينشاسا في نيسان 2021، بعد إخفاق وساطة الاتحاد الأفريقي والولايات المتحدة والمفاوضات الثلاثية المغلقة.

وشهدت هذه الجولة تغيّر قواعد التفاوض عمّا كانت عليه قبل عدّة سنوات. ففي البداية كانت حول الدراسات الهندسية للسدّ وتقييم آثاره على دولتي المصب مصر والسودان، ثم التفاوض حول تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدوليين، ثم التفاوض حول قواعد ملء وتشغيل السدّ، والآن مع المرحلة الخامسة لعملية الملء الصيف المقبل أصبحت هناك قواعد جديدة.

إن رغبة إثيوبيا في الحصول على حصّة من مياه النيل الزائدة عن حاجتها، التي تذهب إلى دولتي المصب مصر والسودان، واستمرارها في مواقفها الرافضة عبر السنوات الماضية للأخذ بأيّ من الحلول الفنية والقانونية الوسط التي من شأنها تأمين مصالح الدول الثلاث، وتماديها في النكوص عمّا تمّ التوصل له من تفاهمات ملبية لمصالحها المعلنة، هي الأسباب نفسها التي سببت إخفاق جميع جولات المفاوضات. وعلى ضوء هذه المواقف الإثيوبية المتعنتة تكون المسارات التفاوضية قد انتهت.

ولكن على الرّغم من سلسلة الإخفاقات الماضية والأخيرة يبقى الخيار التفاوضي هو الحل الوحيد للتوصّل إلى تسوية وديّة وتفاوضية تلبّي مصالح الدول الثلاث التي تتطلع إلى استئناف المفاوضات من جديد.