نوري إسكندر: حلب عاصمة موسيقية وهارمونية الفلكلوريات
حلب-غالية خوجة
كيف استطاع الموسيقار نوري إسكندر (1938 ـ 2023) الملقب بـ “الملفونو ـ المعلم” أن يناغم بين الموسيقا السريانية ـ الآرامية، وتراتيلها مع القدود الحلبية والموشحات؟ وكيف جعل من هذا التراث الموسيقي حالة معاصرة؟
لفتت موهبته النغمات، خصوصاً، وأنه بدأ حياته معها منذ العاشرة من عمره، واشتهر بموسيقاه السريانية والأغاني الشعبية السورية، فسعى إلى توثيقها فنياً، هو الذي تتلمذ على حساسية الموسيقار الروسي ميشيل بوزيرنكو، وبدأ كعازف ترومبيت، ودرس آلة الكمان، وتخرج من المعهد العالي للتربية الموسيقية بالقاهرة عام 1964، وعاد إلى حلب ليدرس الموسيقا في الثانويات ويؤسس فرقة “كورال السرياني” فيها عام 1965، وشغل منصب مدير المعهد العربي منذ 1994 ولغاية 2003، أحيا حفلات لا تحصى في سورية وخارجها، ومنها دار الأوبرا بدمشق، وقصر اليونسكو، وأبدع في تأليف الموسيقا ومنها التصويرية للأفلام السينمائية والمسلسلات والمسرحيات، لا سيما مسرحية “باخوسيات”، كما شابك بين الموسيقا الشرقية والغربية وألف العديد من الكونشرتات الخاصة بالآلات، ومنها التشيللو، والعود والوتريات.
معادلة التثقيف اللحني
وهذا التشابك الذي أعطاه بعده المثقف من خلال إتقانه اللغة السريانية، والمقامات الموسيقية، واهتمامه بالتراث السوري المتنوع، وبحثه في تلك الجذور وصولاً إلى اللحظة المعاصرة، جعل موسيقاه مميزة بجمالية الجملة الموسيقية ورشاقتها وكثافتها المنفتحة على فضاء خفي للنص الموسيقي كونه مستمداً من هذه الركائز الأساسية، وأضاف إليها عملية التوثيق من الشفاهية إلى التدوين، فأصدر كتابين “منوّطين” عن هذه الموسيقا الكنسية والمدنية العائدة لمدرسة “الرُّها ـ أورفه”، و”دير الزعفران”، ومن مؤلفاته “بيت كازو السريانية الرهاوية”، و”بيت كازو السريانية بالنوطة”.
إلاّ أن أهم ميزة حزمت هذه العناصر والمفردات كانت الارتحال مع روحانية الموسيقا كبُعد أسّيّ شكّل نقطة التقاء لشفافية الأعماق الإنسانية سواء كانت في الشرق أو الغرب، ولم يختصرها بالناحية الدينية، بل شعّبها إلى المتداول الاجتماعي والعاطفي والوجداني، مستلهماً من تداخلات الأجناس فضاءه المتسع، موظفاً المثاقفة أسلوباً بين الأصوات “الألحان ـ المقامات” الموسيقية العربية والعالمية والسريانية “أكاديا ـأوكتايكوس، أي الألحان الثمانية”، والتي جاء ذكرها في كتاب “اللؤلؤ المنثورـ البطريارك برصوم الأول”، وأقدم رقيم وجد في بلاد ما بين النهرين هو نص وحيد ومؤلف بثمانية ألحان على آلة القيثارة ـ الكينارة.
الثلاثي الوتري الحلبي
وعن هذا التداخل، أجابني ذات حوار في مقهى السياحي بحلب: منذ عقود، وأنا أقوم بتجارب تفكيك المقامات والأجناس وإعادة تركيبها، وتحتمل هذه التجارب التوزيع والهارموني والتأليف، وكنت بحاجة ماسة إلى إيجاد المحلية الشرقية التي كانت منذ زمن طويل أحادية اللحن، ولم تكن هناك قواعد كتل هارمونية “تآلفات ـ أكّورات”، وعلى هذه الانطلاقة الجديدة، ألّفتُ أعمالاً بثلاث آلات “كمان1، كمان2، تشيللو” مثل “الثلاثي الوتري الحلبي”، وهي أحَب أعمالي إلي، كما أني أرى حلب عاصمة موسيقية إضافة لكونها عاصمة اقتصادية وثقافية إسلامية، كونها عاصمة الفنون والأدب والطرب.
الموسيقا مستمعة لأعماقنا
لكن، ماذا عن إصغاء الموسيقا لنا وصياغتها لأسماعنا؟ أجابني وقتها: الموسيقا الاستماع المسموع من غير كلام، إنها الاستماع لهذه المفردات المفهومة للجميع، الجاعلة من الموسيقا لغة عالمية، وبالمقابل، ليس كل استماع موسيقا، وليس كل ما نسمعه هو الموسيقا، لأن ما نسمعه يلعب دوراً كبيراً في تركيب الشخصية الإنسانية، هناك موسيقا من النوع السطحي والساذج والفارغ من المضامين الروحية، وهذا يشكـّـل عبئاً على الإنسان ويمنعه من الوصول إلى الشفافية والصدق والعمق من الأحاسيس الإنسانية المختلفة، وهناك موسيقا جادة، رائعة، ترفع سوية الناس إلى مستوى أرقى روحياً.
الموسيقا البديلة
وكان يؤكد دائماً على تفعيل الصياغات المتناغمة، لأنه يرى في إعادة صياغة هذه المضامين الموسيقية الجديدة بقوالب جديدة، بمفرداتها النابعة من التراث هي الموسيقا البديلة التي ستلعب دوراً في الصحوة والوعي الإنساني الداخلي لأنها تطمح لصياغة مجتمع أفضل.
أحاسيس العلاقات الفكرية
وليس أخيراً، أذكر من مؤلفاته النابعة من الفلكلورية السريانية، “حبيبو، حبيبو”، وأوبريت “برقانا ـ الخلاص”، أمّا من أعماله المستلهمة من الصوفية فكانت “يا واهب الحب” التي قدمها في دار الأوبرا ضمن احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية عام 2008، لكنه توفي خارجها في السويد، وكم كان يتمنى لو كان في وطننا العربي وفي العالم مؤتمرات خاصة تتحدث عن الموسيقا الجديدة وهمومها المستقبلية، والتي أخبرني عنها يوماً: نحن بحاجة ماسة إلى موسيقا جادة ذات مضامين جديدة، قريبة من معاناة هذا الإنسان، تلعب دوراً في جمع الأحاسيس الإنسانية مع العلاقات الفكرية العقلية، وهذه المضامين الجديدة يجب أن تكون مستمدة من روح التراث الموسيقي في بلادنا.