بعد “نوابغ العرب”.. واسيني الأعرج: كل رهاناتي روائية وسأتوقف عن العمل الأكاديمي
أمينة عبّاس
اختُتم العام2023 على الساحة الثقافية بمنح الروائي والبروفيسور الجزائري الدكتور واسيني الأعرج الذي يُعدّ أحد أهمّ الأصوات الروائية في الوطن العربي جائزة “نوابغ العرب” بدورتها الأولى، وذلك عن فئة الأدب والفنون للعام 2023، وهي جائزة أطلقها حاكم دبي وتمنح في مجالات متعددة منها الأدب والفنون لمن قاموا بإنتاج عمل أدبي أو فني يحفز التقدم الثقافي والاجتماعي والفكري، ومنحت في دورتها الأولى لواسيني الأعرج تقديراً لإسهاماته ومؤلفاته التي تزيد على الثلاثين رواية، وجميعها مرتبطة بالمجتمعات العربية وثقافتها وبالقيم الإنسانية وثقافات العالم، وقد ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة، كما اعتمدت دراستها في عدد من الجامعات حول العالم، ماجعل من الأعرج كاتباً عالمياً بامتياز.
رديف لنوبل عربياً
عبَّر واسيني الأعرج – الذي يشغل منصب أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس- بعد نيله الجائزة في تصريح له عن فخره بهذه الجائزة التي تُعدّ ـ برأيه- رديفاً لنوبل عربياً، وأهم منها رمزياً لأن مصدرها الأساس هو الثقة بوجود الطاقات الخلاقة عربياً والتي تحتاج إلى نزع الغبار عنها وإظهارها إعلامياً، مؤكداً أنها تحمّله مسؤولية كبيرة تجاه الكتابة التي تشكل بالنسبة للكتّاب صوتهم العميق الذي لا يمكن إلا أن يكون صادقاً وقريباً من الذين لا صوت لهم، مشيراً إلى أن الفوز بجائزة بهذا الحجم يدل على أن ما يكتبه له أصداء بالنسبة للدوائر الثقافية والسياسية، وأنه لا يكتب داخل حلقة مغلقة، كما يدل على أن هذا الصوت الخافت الذي هو صوت الكتابة صوت معروف ومسموع، أما من الناحية الرمزية فللجائزة برأيه قيمة كبيرة لأنه حين قرأ قوانين منحها وجد فيها كثيراً من الجدية والصرامة، وتحمل في طياتها مشروعاً كبيراً يتمثل في منح الفرص للعقل العربي كي ينتشر لأن الإنسان العربي بحاجة ماسّة لهذ المشروع الكبير.
بين التاريخ والرواية
أجمع النقاد على وجود خاصيتين أساسيتين تمتع بهما الروائي واسيني الأعرج، الأولى أنه أخرج النص من الدوائر المغلقة وحوّلَ الرواية إلى بحث ميداني استقصائي مثل عالم آثار ينقّب ويبحث، وأن الأعرج يُعدّ رائداً في هذا المجال برواياته مثل “كتاب الأمير” و”مي ليالي العصفورية” و”عازفة البيكاديللي”، و”حيزية” وغيرها، أما الخاصية الثانية فهي أنه غيّر الرؤية إلى التاريخ، إذ أخرجه من القداسة المفرطة وحوّله إلى مادة بحثية إبداعية، ويدين الجيلُ الجديد من الروائيين العرب له ـ اليوم ـ بالكثير بتوجههم نحو التاريخ كممارسة فنية تاريخية كما فعل في روايته “كتاب الأمير”، متخطياً بذلك العتبات التي شيّدها جرجي زيدان للرواية التاريخية، ويرى الأعرج أن العلاقة بين التاريخ والرواية تغيرت في هذا الزمن عما كانت عليه قديماً، إذ كانت العلاقة قديماً من المسلّمات، في حين أصبحت اليوم علاقة محاورة، موضحاً كذلك أنه يوجد في داخل كل نص أدبي وروائي جزء من التاريخ، لكن لكي تُصنّف الرواية بأنها رواية تاريخية يُفترض أن يكون قد مرّ على الحدث الذي يشكل المعيار الأساس فيها زمناً معيناً وكُتب عنه وأصبح هناك ردود أفعال حوله، ويجب أن يتوفر في النص جزء معيّن من تاريخ الشخصية أو الحدث أو الوضع الاجتماعي، وغيرها من المعايير.
جهد كبير ومغامرة
وعلى خلاف الجيل التأسيسي الذي سبقه، تنتمي أعمال واسيني الأعرج الذي يكتب باللغتين العربية والفرنسية إلى المدرسة الجديدة التي لا تستقر على شكل واحد وثابت، بل تبحث دائماً عن سبلها التعبيرية الجديدة والحية بالعمل الجاد على اللغة وهزّ يقينياتها، ويؤمن الأعرج بأن التجديد بشكل كتابة الرواية مهم ويتعلق بممارسة الكتابة الأدبية واستمراريتها، فبعد خبرة أربعين عاماً في الكتابة سيكون من الغباء برأيه عدم التعلم، مع إشارته إلى أن الكاتب قد يكتب روايات لا تنجح كثيراً على الرغم من مراهنته عليها، وفي أحيان أخرى يكتب روايات لا يراهن عليها ويجري استقبالها بشكل جيد من قبل القراء، ويعترف الأعرج الذي أسهمت أعماله الأدبية في توظيف طرق تعبيرية جديدة للّغة في الرواية وإضافة أبعاد جديدة للمخيلة العربية والسرد القصصي بأنه وإن كان لا يعرف ما سرّ تفرّده على صعيد الرواية، لكنّه في المجمل حين يكتب إنما يكتب من منطلق إضافة شيء جديد وعدم تكرار ما قيل سابقاً، وربما هذا سر التفرد “أي لا تقتنع بما هو موجود بل بما يجب أن نضيف”، مبيناً أنّ الأعمال الروائية جهد خاص وكبير ومغامرة لأنه لا يعرف سلفاً بأن ما يكتبه سينجح، فمثلاً كتب رواية “كتاب الأمير: مسالك أبواب الحديد” وهي جزائرية خاصة، وكان الهدف منها الاعتراف بالجهد الخاص للأمير عبد القادر الجزائري، لكنها فازت بجائزة المكتبيين الجزائريين وجائزة الشيخ زايد للكتاب في فئة الآداب، وهذا يدل برأيه على أن قصة المقاومة تهم الجزائر والعالم العربي: “فما حدث للأمير ربما يكون حدث أيضاً لقادة عرب في القرن التاسع عشر”.
ولا يرى الأعرج أن اهتمامه بقضايا المجتمعات العربية وليس قضايا الجزائر فقط مجازفة بالخروج عن حدود المحلية لإيمانه أن القضايا مشتركة بين المجتمعات العربية، كما يدعو إلى ألا يكون للكاتب موقف إيديولوجي عند الكتابة لأن هذا الأمر قد يدمر النص الأدبي: “الكاتب يتخذ منذ البداية موقفاً أساسه المنفعة، والإيديولوجيا هي منفعة سياسية واضحة، لذلك يجب تخطي الإيديولوجيا الفردية عند كتابة النصوص الأدبية، وهذا من عمل الكاتب أي يجب ألّا يجعل القارئ يشعر بأن النص يحمل أي إيديولوجية، وهذه العملية غير سهلة”.
ألف ليلة وليلة
كان لكتاب “ألف ليلة وليلة” تأثير مباشر على واسيني الأعرج في دخوله عالم الرواية، وذكر في كثير من المناسبات أن هذا الكتاب كان بالنسبة له اكتشافاً كبيراً، وإلى اليوم لا يزال أهمّ كتاب يرتحل معه عبر العواصم العالمية التي يسافر إليها أويقيم فيها، إلى جانب كتاب آخر هو “دون كيشوت” للكاتب “ميغيل دي سيرفانتيس” الذي أثّر فيه من الناحية العالمية تأثيراً كبيراً، ليكون هذان الكتابان المؤسسان لذاكرته الإبداعية والأدبية،إضافة إلى المرجع الأول والكبير وهو حكايات الجدة التي ما يزال يحفظها ويكررها.
رهانات روائية
كشف واسيني الأعرج بعد نيله الجائزة أنه سيتوقف عن العمل الأكاديمي في جامعة السوربون، وفسّر ذلك قائلاً: “لأنني أصبحت متعباً ولم أعد قادراً على الجمع بين العمل الأكاديمي والأدبي، وسأكتفي بالعمل الروائي، وكل رهاناتي رهانات روائية”، علماً أن أغلب جهود الأعرج الأولى تمت في جامعة الجزائر المركزية، حيث أسس العديد من البحوث التي تهتم بالرواية بوصفها أهم قناة ناقلة للثقافات والمعارف والبنيات الجمالية العربية والعالمية، وعندما انتقل إلى فرنسا بدعوة من المعهد العالي الفرنسي الذي تخرّج فيه كبار المنظّرين للنقد العالمي الجديد أسّس حلقة بحث بعنوان “صيرورة نشوء الرواية العربية الجديدة”، داحضاً الرؤية التي ربطت النشوء بـ 1914 فأعاد تاريخ الأدب إلى نظامه الطبيعي، وألّف العشرات من الدراسات والأبحاث المنشورة في كبريات المجلات العربية بالعربية والفرنسية، كان آخرها كتاب “المنجز السردي العربي القديم في ضوء المناهج النقدية الحديثة”.
الجوائز الأدبية
تحفل مسيرة واسيني الأعرج الإبداعية بالعديد من الإنجازات على المستوى العربي والعالمي، ففي عام 1997 اختيرت روايته “حارسة الظلال” ضمن أفضل خمس روايات صدرت في فرنسا، ونُشرت بأكثر من خمس طبعات متتالية بما فيها طبعة الجيب الشعبية، وفي العام 2001 حصل على جائزة الرواية الجزائرية على مجمل أعماله وعلى جائزة المكتبيين الكبرىعام 2006 عن روايته “كتاب الأمير” التي تُمنح عادةً لأكثر الكتب رواجاً واهتماماً نقدياً، ليحصل في العام التالي أيضاً على جائزة الشيخ زايد للكتاب، في حين اختير عام 2010 من قبل اتحاد الكتّاب الجزائريين كأفضل شخصية ثقافية، كما نالت روايته “البيت الأندلسي” في العام نفسه جائزة أفضل رواية عربية، في حين منحته مؤسسة الفكر العربي في بيروت عام 2013 جائزة الإبداع الأدبي عن روايته “أصابع لوليتا” وفي عام 2015 نال “جائزة كتارا” للرواية العربية عن روايته “مملكة الفراشة” لينال في عام 2023 “جائزة السلطان قابوس” للثقافة والفنون والآداب في مجال الرواية.. يقول: “من يراهن على أن الكتابة ستجلب له الشهرة والمال وينتظر بعد أن يكتب كل رواية الأضواء والجوائز وأن تُترجم أعماله إلى لغات عدة خاسر، في حين أن الأدب ليس هكذا، فالكتابة تصبح رهاناً عندما تجعلها أسلوب حياة، حيث الأديب يجب أن يكتب كي يستمتع أولاً بالشخوص التي يخلقها وبالأفكار والتساؤلات التي يطرحها والعوالم التي يعيش بداخلها، فهنا يكمن جمال الكتابة التي تنقل الكاتب إلى نفوس ووجدان الآخرين، وبالتالي فإن قضية الجوائز بالعموم حادث عرضي، فالأديب يسير في طريقه ويخلق عوالمه ويستمتع بما يكتبه، وإذا جاءت الجائزة فخير وبركة، وهي بالطبع نوع من الاعتراف والتقدير المادي، لكن الكتابة هي تاريخك وإسهامك الفعلي والأثر الباقي منك”.
واسيني الأعرج
ولد في عام 1954 من أصول أندلسية في مدينة تلمسان الجزائرية، عاصر في طفولته آخر فترات الاستعمار الفرنسي لبلاده، وشبَّ يتيماً حيث فقد والده الذي استشهد عام 1959 بسبب مقاومته للاستعمار الفرنسي، حصل على الليسانس من كلية الآداب واللغات من جامعة وهران الجزائرية، وعلى الماجستير والدكتوراه من جامعة دمشق، يشغل منصب أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، يكتب باللغتين الفرنسية والعربية.