نظام “القواعد” الأمريكي.. أداة للهيمنة على العالم
ريا خوري
لم يتوقّف قادة واستراتيجيو الولايات المتحدة الأمريكية عن وصف النظام الدولي القائم بأنه (قائم على القواعد)، وهذا التعبير الذي ما زال الرئيس الأمريكي جو بايدن يكرّسه في خطاباته ولقاءاته مع مسؤولي العالم، ليؤكّد أن الولايات المتحدة هي زعيمة العالم ولا أحد غيرها. إن محاولة تعديل بنية النظام العالمي أو تغييره تعدّ مدخلاً إلى الفوضى وتكريساً لشريعة الغاب التي تسير وفق نهجها الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا قولٌ لا توافق عليه دول وتكتلات إقليمية ودولية قوية ووازنة، ترى في النظام الدولي القائم وقواعده المركّزة عليه تجسيداً للمصالح الغربية فقط، وتغليباً لها على مصالح بقية دول وشعوب العالم في ضوء ما انطوت عليه هذه القواعد من إجحافٍ ونهب لخيراتها وافتئاتٍ على مصالحها.
تنطوي قواعد النظام الدولي القائم على تعارضٍ كبير بين أهدافه النبيلة العامة المعلنة والإجحاف بحق الآخرين الذي بُنيت عليه هيكليتُه وتركيبة مؤسّساته وإداراته وشروط عملها. إنّ تمسّك الولايات المتحدة بهذا الوصف، ينطوي على خداع ومراوغة بين منطقية الوصف من حيث الشكل الظاهري، ومحاباته المنتصرين من حيث المضمون والجوهر، فقواعده وأسسه فيها تمييز يجوّفها ويجعلها وبالاً على حقوق دول وشعوب كثيرة ومصالحها.
فقد تم إنشاء النظام الدولي القائم بعد مفاوضات طويلة ومعقدة بين دول الحلفاء المنتصرة في الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥، حيث بدأت مشاوراتٌ أولية بين فرانكلين روزفلت الرئيس الأميركي آنذاك، ورئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل، عام 1941، في ذروة هذه الحرب الدامية، لتحديد أهداف عالم ما بعد الحرب، نجم عنها ما عُرف بـ(ميثاق الأطلسي)، الذي تضمّن العديد من التغييرات الدولية التي كان منها تشكيل بديلٍ دوليٍّ لعصبة الأمم التي فشلت في حفظ السلم والأمن الدوليين، أطلق عليه الرئيس الأمريكي، وهي هيئة دولية كبرى، وقد تبنّت بقية دول الحلفاء في الحرب الميثاق بعد إدراج اقتراحات من قادة الاتحاد السوفييتي السابق في نصّه فغدا (ميثاق الحلفاء) تحت اسم (الأمم المتحدة)، وغدا التوقيع عليه قاعدةً للانضمام إلى الحلفاء، أو الأمم المتحدة، التي تم الإعلان عن تأسيسها رسمياً عام 1945، بعد توقيع خمسين دولة على الميثاق العتيد، وأصبح عدد دولها الآن مائة وثلاث وتسعين دولة، وعن أهدافه قال الميثاق: (المحافظة على السلم والأمن الدوليين عن طريق اتخاذ تدابير جماعية فعَّالة لمنع وإزالة الأخطار التي تهدّد السلم، وتنمية العلاقات الودّية بين الدول على أساس احترام مبدأ المساواة في الحقوق وتقرير المصير للشعوب وتعزيز وتشجيع احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع، بما في ذلك الحرية الدينية، من دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين، وتنسيق أعمال الدول في تحقيق هذه الغايات المشتركة). وقد سعوا لتعزيز تبنّي حقوق الإنسان بـ(الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)، غير الملزم قانوناً، عام 1945، وعادوا وجعلوه أساساً لمعاهدتين ملزمتين، الأولى (العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية) عام 1966 والثانية (العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية) عام 2013.
ليس هناك جديد في الأمر سوى أنّ العالم لم تعُد له قيادة واحدة فقط، بل هناك دول قوية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً مثل الصين وروسيا الاتحادية ومعهما مجموعة دول (بريكس).
في الآونة الأخيرة، أكّد الرئيس الأمريكي بايدن كثيراً ضرورة استخدام مصطلح (النظام الدولي القائم على القواعد)، ودعا إلى ضرورة الحاجة للحفاظ عليه، من دون أن يُفصح عن ماهية هذا النظام، وما هي قواعده بالضبط. لكن من الواضح أنه يعني الإبقاء على النظام الدولي القائم الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية، رافضاً قيام نظام دولي جديد أكثر عدلاً وإنسانية ومساواة وأخلاقية.
فالنظام الذي تريد الولايات المتحدة الأمريكية تأبيده هو نظام القوة العسكرية التي تحمي القوة الاقتصادية، تلك القوة التي تدعو إلى تأبيد الحروب الدامية وفتح بؤر توتر في العالم وتدعو إلى الهيمنة والانتقائية، ما يلغي القانون الدولي والشرعية الدولية، كما يلغي دور المنظمة الدولية هيئة الأمم المتحدة، ويُعلي القواعد والقوانين الأمريكية ويفرضها على العالم بالقوة.
هذا المصطلح ليس جديداً في الواقع، فقد استخدمته الولايات المتحدة الأمريكية إبّان الحرب على العراق وغزوه عام 2003، لتبرير الغزو من دون تفويض من الأمم المتحدة، وهي تعاود استرجاعه الآن من جديد، لتبرير رفضها قيام نظام دولي جديد تشترك فيه الصين وروسيا الاتحادية ومجموعة دول بريكس، والمضي في ممارسة سياسة الهيمنة، وشنّ الحروب بالوكالة كما في أوكرانيا، وتصعيد الصراعات والاستفزازات كما هو الحال مع جمهورية الصين الشعبية، وفرض العقوبات الاقتصادية الجائرة على الدول والشعوب التي ترفض سياساتها.
لقد فضحت الحرب الصهيونية الوحشية على قطاع غزة هذا المصطلح، وعرّته من كل معانيه ومدلولاته أمام المجتمع الدولي، إذ اتضح تماماً أنّ مصطلح (النظام القائم على القواعد)، هو نظام بديل للقانون الدولي والشرعية الدولية ويهدّده، وأنّ الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة دائماً (لتجاهل القانون والقواعد، أو التهرّب منها أو إعادة صياغتها متى بدت غير ملائمة لها). وهذا ليس عامل قوة، وإنما عامل ضعف ووهن، وذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تشهد انحداراً وتراجعاً كبيراً في دورها ونفوذها وقوتها في مواجهة قوى دولية أخرى صاعدة لها دور عالمي كبير ومؤثّر، تبدأ في الحديث عن القواعد، تلافياً لقيام نظام دولي متعدّد الأقطاب.
إن النهج الأمريكي الأخير المتبع في مجلس الأمن الدولي في تعطيل مشروع قرار قدّمته دولة الإمارات باسم المجموعة العربية والإسلامية وبتأييد أكثر من مئة دولة، لوقف إطلاق النار في قطاع غزة لدواعٍ إنسانية، يؤكد أنّ نظرية (القواعد الأمريكية) المطبّقة المشار إليها هي قواعد غير إنسانية ولا أخلاقية على الإطلاق، وتتعارض بالمطلق مع القانون الدولي والإنساني، وتشكّل تحدياً واضحاً وصريحاً للرأي العام العالمي، وحتى لجزء قوي ووازن من الرأي العام الأمريكي الذي يرفض حرب الإبادة الجماعية التي تمارسها قوات العدو الصهيوني ضد المدنيين من أطفال وشيوخ ونساء وتدمّر البيوت فوق ساكنيها في قطاع غزة.
لذلك جاء موقف العديد من دول العالم من (الفيتو) الأمريكي واضحاً في تفسيره باعتباره أضاع فرصةً لوقف نزيف الخسائر البشرية والمادية، وألقى بظلال سلبية جداً حول قدرة المجتمع الدولي على حماية المدنيين خلال الصراعات المسلحة.
ونحن في هذا المقام نرى أن العالم بحاجة ماسة وضرورية إلى توحيد معاييره الأخلاقية وانحيازه إلى الإنسانية، حيث إن حق النقض (الفيتو) الأمريكي قوّض دور الأمم المتحدة كضامن للأمن والسلام الدوليين، وأهدر كل المفاهيم الأخلاقية والإنسانية التي تعزّز القيم الإنسانية السامية. وهكذا بات مصطلح (النظام الدولي القائم على القواعد) يعني أيضاً دعم القتل والحروب والعدوان، وإعطاء الضوء الأخضر للكيان الصهيوني بمواصلة حرب الإبادة الجماعية (جينوسايد)، وتقديم كل أسلحة الدمار والقتل لتحقيق أهدافها في السيطرة ونهب خيرات الشعوب.