كمال الشرابي.. شاعر احتلّ مقعد نزار قباني في الأربعين
أمينة عباس
تُجمع الآراء على أن الشاعر والمترجم كمال فوزي الشرابي الذي رحل في مثل هذه الأيام من العام 2009، وإن كان من رواد الشعر في القرن العشرين، لكنه عاش مظلوماً، وعانى التّجاهل، وأغفل التاريخُ الشعري أنه كتب قصيدة التفعيلة قبل نازك الملائكة وبدر شاكر السياب بست سنوات، عندما نشر في مجلة “الصباح” لصاحبها عبد الغني العطري عام 1942 قصيدته “العذارى” التي سبقت أي قصيدة من شعر التّفعيلة برأي العديد من النقاد، وقد رثا فيها شاعر الهند “رابندرانات طاغور”.
كيف يمضي الربيع في نيسانِ
عدّ النقاد شعر كمال فوزي الشرابي فتحاً جديداً ومنهجاً مبتكراً بمضمونه وأسلوبه في حقبة الأربعينيات والخمسينيات، وجاء في مقالة نشرتها هيام كيالي في مجلة “السنابل” الحلبية في عام 1961 أن شاعراً عملاقاً للمرأة قد ولِد وولِد إلى جانبه شعراء آخرون في نفسه، شعراء الإنسانية والحياة والوطن، وكل هؤلاء اجتمعوا في شخص الشرابي، رجل شارف على الأربعين، ليحتل مقعد نزار قباني الذي بدأ يدخل مرحلة الخمسين، مشيرةً إلى أن نزار قباني أصبح في خطر بظهور شاعر بمستواه، ينافسه قرض الشعر اللطيف، في حين بيّن الشرابي في حوار له أن علاقة صداقة قوية كانت تربطه بالشاعر نزار قباني -وهما من مواليد 1923- وقد كانا صديقين في الكلية العلمية الوطنية، ومن ثم في كلية الحقوق، وأن التواصل بينهما لم ينقطع، وكان قباني قد خاطبه يوماً: “أنت يا كمال شاعري الأثير، ورفيقي في الدراسة والشعر، وصديقي بالروح، وتبقى أكثرنا نقاء”، وكان وقع وفاته على قلب الشرابي قاسياً ومؤثراً، وقبل تشييعه في دمشق نظم قصيدة أهداها لروحه: “جرح هذا الرحيل باقٍ بروحي.. ليس يبرأ على مدى الأزمانِ، كيف تدجو السماء في يوم شمسٍ.. كيف يمضي الربيع في نيسانِ”. وفي عام 2006 أهدى الشرابي قباني قصيدتين، الأولى: قبل انتصارات حرب تموز 2006 والثانية بعدها، يقول في الأولى: “قم يا نزارُ من الضريحِ لكي ترى.. كم نحن نشكو ذلَّنا ونضام”، وأمّا في القصيدة الثانية فيخاطبه قائلاً: “قم يا نزار من الضريح لكي ترى.. كيف الأشاوس في المعارك سطّروا.. آيات نصر ما لهنّ نظير”.
العاشق الولهان
لم تكن علاقة كمال فوزي الشرابي بدمشق إلا علاقة العاشق الولهان بحبيبته، فكانت حاضرةً بسحرها وجمالها في قصائده، لذلك صاغ مع خمسة من الشعراء قصائد الحبّ إلى دمشق: “سبع عجائب دنيانا وثامنة/ يا شام أنت فشعري فيك مفتتن/ عجيبة الحسن: نلت السحر أجمعه/ فريدة الدهر: من عشاقك الزمن”، وحين أراد أن يعرّف بنفسه كتب: “ولدتُ من الياسمين.. ومن بردى الأمين/ من قاسيون المفدى.. منار الهدى والحنين/ أنا من سماء دمشقي.. شعاع على الطيبين”، وقبل رحيله بفترة قصيرة كتب: “وحلمتُ بأني قد متّ ودفنت بتربتي قاسيون/ من قال بأني قد مت/ وتراب دمشق يؤويني/ ما مت.. أنا معكم باق/ بجمال قصيدتي وحنيني/ شكراً للغيم يظللني/ ولغيث الشام يرويني”، كما طلب قبل وفاته أن يدوّن على شاهدة قبره: “هنا يستريح كمال الشّرابي/ من الكذب والظلم والاغتراب/ هنا شاعر أحبّ الشآم/ وغنّى لها في الرّضا والعذاب/ لها بالوجود وما في الوجود/ من المغريات الملاح العِذاب/ ويسألك الآن، يا ربّ، عفواً/ وسُكنى بظلّ الجنان الرّحاب”.
القيثارة
كان كمال فوزي الشرابي كما جاء في أحد حواراته مولعاً بقراءة المجلات، وكان يحلم في طفولته المبكرة أن يُصدِر في يوم من الأيام مجلة، إلى أن تحقق الحلم حين كان تلميذاً بعمر الـ13 في الكلية العلمية الوطنية بدمشق حيث تعاون مع زميلين له على تحرير مجلة سمّاها “الصرخة”، تأييداً للصرخات التي كانت تنطلق ضد الاستعمار الفرنسي آنذاك، وبسبب انتقاله إلى طرطوس بحكم عمل والده توقفت المجلة عن الصدور، وفي عام 1946-1947 أصدر في مدينة اللاذقية التي كان يعمل فيها مجلة “القيثارة”، مبيناً في حواره أن كبار الشعراء حينها إلى جانب المبتدئين كانوا ينشرون فيها مثل بدوي الجبل وبشارة الخوري وسعيد عقل وعمر أبو ريشة ونديم محمد ونزار قباني الذي كان في بداياته، كما نشر فيها أدونيس أولى قصائده وكان عمره لا يتجاوز الرابعة عشرة، وبعد سنتين توقفت المجلة لعودة الشرابي إلى دمشق.
يكتب ويبقى طفلاً
بدأ الشرابي بقرض الشعر مبكراً بالتزامن مع صدور مجلته “الصرخة”، وفي أوائل الأربعينيات بدأ بنشر قصائده في مجلة “الصباح” ليصدر في عام 1961 ديوانه الأول “قُبَل لا تنتهي”، وتناول فيه موضوعات عديدة كالغزل ووصف الطبيعة، وفي عام 1972 أصدر في بيروت ديوانه الثاني “الحرية والبنادق” وهو بعيد عن دمشق فعبّر من خلاله عن عشقه للوطن: “شوقي إليكِ استمات/ بعينيكِ ألمح دمعي أنا” وحين قرأه سعيد عقل كتب: “هذا الشّاعر المنشرح الجنان هو اليوم في عز النّضج، يكتب -أحياناً- كما الآلهة، ويبقى طفلاً”، وظل الهمّ القوميّ والهاجس الوطنيّ همّه الأكبر في مجموعته الثالثة “قصائد الحبّ والورد”: “صامدٌ مثلنا الحجر.. ما توانى ولا انكسَرْ.. هو أقوى من اللظى.. ومن السيل إن هدَرْ”، وبحكم أنه كان أميناً لسرّ جمعية الزجل كتب في هذا الفن وتعامل معه كبار الملحنين والمطربين أمثال محمد محسن ونجيب السراج وابراهيم جودت وسهيل عرفة وربى الجمال.
المترجم
ساعده تمكّنه من الثقافة الفرنسية ولغتها على ترجمة العديد من أدبائها وشعرائها، وظل يمارس الترجمة إلى يوم رحيله، سواء من خلال إصدارات وزارة الثقافة أم مع دور النشر الكبرى، ومن ترجماته الكثيرة ديوان الشاعر الإسباني “أدولفو غوستا بوبيكر”، الذي قدم له نزار قباني، ومسرحية “روميو وجولييت” لـ”شكسبير” التي صدرت في بيروت وقدم لها سعيد عقل، ومسرحية “فاوست” لـ”غوته”، بالإضافة إلى ترجمات كثيرة كان ينشرها في الصحف المحلية وإصدارات اتّحاد الكتّاب العرب، وبالمقابل تُرجمت بعض قصائده إلى الفرنسية، وقد صدرت ضمن كتاب مختارات من الأدب العربي المعاصر: الشعر والتي نشرت في باريس عام 1967.
ظلم تاريخي بحقه
يقول الشاعر الدّكتور نزار بني المرجة إنه كان من المتابعين لإبداعاته ليس لأنه من أبرز رواد الشعر الحر في سورية والوطن العربي، بل لأن ظلماً تاريخياً قد وقع بحقه ويتمثل في قول النقاد والمؤرخين إن بدر شاكر السياب ونازك الملائكة هما أول من كتب الشعر الحر في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، في حين أن الشرابي وزميله الشاعر الدكتور علي ناصر هما أول من أطلق العنان للشعر الحر عبر مجلة “القيثارة” التي أصدرها في اللاذقية في عام 1946، مبيناً أن الشرابي ومنذ ديوانه الأول ظل أميناً لموضوعات أثيرة تدور حولها قصائده وهي: الغزل، ووصف الطبيعة، والتعبير عن أحاسيس النفس بشكل مرهف، والتطلع إلى كيان أفضل، والتغني بجمال الوطن، إيماناً منه بأن للشعر رسالة اجتماعية ووطنية سامية، داعياً بني المرجة النقاد لتصحيح تأريخ الشرارة الأولى للقصيدة العربية الجديدة على يده، وفي ذلك إعادة الحق إلى نصابه.
جئتني بعد انتظار
ورأى الباحث غسان كلاس الذي أصدر كتاباً عن الشرابي في عام 2015 أن الأسلوب الشعري الذي ذهب إليه الشرابي يتّجه باتجاهين، الأول: ضمن الالتزام بالبحور الخليلية، وفيه يعتمد الألفاظ المتناهية مع تفعيلات البحر ورويّه وقافيته والمعاني التي يوردها كقصيدة غزلية بعنوان “من بلاد الغربة إلى مليكتي الدمشقية” ومنها: “جئتني بعد انتظار وتمني، وبكفّيك ربيع ضاع منّي”، أما الثاني فكان يشكل الكمّ الأكبر في شعره وهو نمط النشيد المبسّط من دون الاعتماد على كلمات صعبة وألفاظ قاسية كما في غزلياته كقوله في قصيدة بعنوان “غزلية إلى حبيبي”: “اليوم أبصرت الهلال، وقاسيون يبوس خدّه، فخطرت في بالي كما، يصحو مع الأنسام وردة”.
يُذكر أن الشرابي من مواليد 1923 أصدرت الهيئة العامة السورية للكتاب كتاباً عنه كشاعر ومترجم وباحث، تأليف غسان كلاس، ويضمّ مجموعة كبيرة من القصائد التي كتبها الشرابي ولم تُنشَر.