دراساتصحيفة البعث

مجاعة وحشية منظّمة مفروضة على غزة

عناية ناصر

يواجه سكان غزة واحدة من أسوأ المجاعات التي من صنع الإنسان في التاريخ الحديث، حيث أدّت آثار القصف والنزوح والحصار إلى دفع السكان الضعفاء إلى الجوع الشديد، وهذه ليست نتيجة ثانوية عرضية للصراع.

ورأت منظمة “هيومن رايتس ووتش”، أن ذلك نتيجة لسياسة متعمّدة لسلطات الكيان الإسرائيلي لمعاقبة جميع السكان الفلسطينيين في غزة بسبب عملية “طوفان الأقصى” التي شنّتها المقاومة الفلسطينية. والآن نشهد العواقب الكارثية التي تخلّفها هذه السياسة على أكثر من مليوني إنسان، نزح 90% منهم من منازلهم على مدى الأشهر الثلاثة الماضية.

وفي الشهر الماضي، أصدرت مبادرة “التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي” تقريراً عن غزة يحذر من أن ربع السكان يمرّون الآن بمرحلة كارثية، وأن جميع السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد ومعرّضون لخطر المجاعة. ووفقاً للتقرير، فإن هذا هو أعلى مستوى من انعدام الأمن الغذائي الحاد الذي قام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي بقياسه على الإطلاق في منطقة معيّنة. ففي كل مكان آخر من العالم، هناك ما يقرب من 130 ألف شخص في المرحلة الخامسة من مبادرة “التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي”، وهي المرحلة الكارثية، أما في غزة فهناك أكثر من نصف مليون شخص.

في هذا السياق، قال عارف حسين، من برنامج الغذاء العالمي، لصحيفة “نيويورك تايمز” في بداية الشهر الحالي: “لقد زرت أماكن الصراع، سواء في اليمن، أو جنوب السودان، أو شمال شرق نيجيريا، أو إثيوبيا، ولم أرَ شيئاً كهذا من قبل، سواء من حيث الحجم أم من حيث الوتيرة التي حدث بها”. ويقول برنامج الأغذية العالمي: يمضي كل فلسطيني في غزة تقريباً أكثر من يوم دون أن يأكل أي شيء، وعندما تكون هناك فرصة لتناول الطعام، لا يوجد سوى كمية ضئيلة يمكن تقسيمها بين الأسر الممتدة. ووفقاً لتقارير إخبارية موثوقة، فإن الطعام نادر للغاية لدرجة أن الناس يلجؤون إلى تناول أي طعام فاسد يمكنهم العثور عليه، كما تعاني الأمهات اللاتي لديهن أطفال رضع من سوء التغذية إلى الحدّ الذي يجعلهن غير قادرات على إرضاع أطفالهن، كما أصبح الطعام القليل المتاح باهظ الثمن إلى حدّ لا يوصف.

ويعني الحصار المفروض على الواردات التجارية عدم وجود وسيلة لتلبية الاحتياجات الأساسية للسكان. وفي شمال غزة، حيث تم تدمير البنية التحتية وأصبح من المستحيل إيصال المساعدات، فإن الظروف أسوأ مما هي عليه في بقية أنحاء القطاع. وقال منسق الأمم المتحدة للإغاثة في حالات الطوارئ، مارتن غريفيث: إن “غزة ببساطة أصبحت غير صالحة للسكن. ويشهد سكانها تهديداتٍ يومية لوجودهم ذاته، بينما يراقب العالم ذلك”.

إن سياسات الكيان الإسرائيلي هي التي تخلق هذه الكارثة. وبناء على تحليلها لتصرّفات الحكومة الإسرائيلية والتصريحات الرسمية منذ 7 تشرين الأول، خلصت هيومن رايتس ووتش إلى أن حكومة الكيان الإسرائيلي تستخدم التجويع كسلاح حرب، وهو ما يعدّ جريمة حرب بموجب اتفاقيات جنيف. ونقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن عمر شاكر، مدير مكتب هيومن رايتس ووتش في “إسرائيل” وفلسطين، قوله: “على مدى أكثر من شهرين، تحرم “إسرائيل” سكان غزة من الغذاء والماء، وهي سياسة شجّعها أو أقرّها مسؤولون إسرائيليون رفيعون وتعكس نية تجويع المدنيين كوسيلة من وسائل الحرب”.

وتنفي حكومة الكيان الإسرائيلي الاتهامات بأنها تعرقل المساعدات، وتشير إلى الشحنات التي تم السماح بدخولها، لكن هذا الدفاع أمر ساذج، فالكمية الصغيرة من الغذاء والوقود المسموح بدخولها يجب أن تخضع أولاً لعملية تفتيش شاقة وتستغرق وقتاً طويلاً، والمساعدات التي تمرّ عبرها غير كافية لتلبية احتياجات الملايين من الأشخاص المشرّدين في منطقة معزولة عن العالم الخارجي.

وأشار الباحث أليكس دي وال في مقال جديد إلى أن “الأزمة الإنسانية الكارثية في غزة هي عمل متعمّد، وغزة هي مسرح لجريمة المجاعة”. وأوضح أن “دقة وحجم وسرعة تدمير الأشياء التي لا غنى عنها للبقاء على قيد الحياة، وإنفاذ الحصار يفوق أيّ حالة أخرى من المجاعة من صنع الإنسان في السنوات الـ75 الماضية”.

وفي هذا الشأن تحدّث دي وال في كتابه “المجاعة والموت الجماعي”، عن المجاعات الفظيعة الأخيرة التي نشأت في هذا القرن في اليمن، وجنوب السودان، والسودان، وأوغندا، ونيجيريا، والصومال. لقد كانت استجابة الحكومة الأمريكية لما يعدّ “مجاعة وحشية” جديدة في غزة سيئة وغير كافية. وكان وزير الخارجية أنتوني بلينكن قد زار “إسرائيل” مؤخراً، واعترف بالحاجة إلى دخول المساعدات، وقال: إن هناك “عدداً كبيراً جداً” من القتلى في غزة. لكنه لم يلقِ اللوم على “إسرائيل”، مثل كل خطابات الإدارة المعتادة. إن الدعم المستمر غير المشروط للحملة العسكرية الإسرائيلية ومعارضة واشنطن العنيدة لأيّ قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار في الأمم المتحدة يعني أن هناك ضغطاً ضئيلاً أو معدوماً على سلطات الكيان الإسرائيلي لتغيير مسارها.

وباعتبارها الراعي الرئيسي ومورّد الأسلحة لـ”إسرائيل”، تتحمّل الولايات المتحدة مسؤولية كبيرة عن كل من الحملة الوحشية وسياسة العقاب الجماعي التي تدعمها ضد الفلسطينيين. إن السبيل الوحيد لتفادي خسائر واسعة النطاق في الأرواح بسبب الجوع والمرض في غزة هو وقف فوري لإطلاق النار ورفع الحصار. وكلما طال أمد التوصل إلى وقف لإطلاق النار، زاد عدد الوفيات التي يمكن تجنّبها بين الأبرياء في غزة. يجب أن يكون منع المجاعة في غزة على رأس أولويات واشنطن، وإذا لم تتحرّك الولايات المتحدة في الوقت المناسب، فسيكون ذلك بمنزلة علامة سوداء في تاريخ الولايات المتحدة وواحداً من أكبر إخفاقات السياسة الخارجية في تاريخها.